ننزل بأنزلنا ، ولعل وضعه موضعه لاستحضار صورة إنزال تلك الآية العظيمة الملجئة إلى الإيمان وحصول خضوع رقابهم عند ذلك في ذهن السامع ليتعجب منه فتأمل.
وقرأ طلحة «فتظل» بفك الإدغام ، والجزم وضعف الحريري في درة الغواص الفك في مثل ذلك ، ورجح صاحب الكشف القراءة بأنها أبلغ لإفادة الماضي ما سمعته آنفا ، هذا والظاهر أنه لم تحقق إنزال هذه الآية لأن سنة الله تعالى تكليف الناس بالإيمان من دون إلجاء ، نعم إذا قيل : المراد آية مذلة لهم كما روي عن قتادة جاز أن يقال بتحقق ذلك ، ولعل ما روي عن ابن عباس كما في البحر والكشاف من قوله نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية ستكون لنا عليهم الدولة فتذل أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوان بعد عزة ناظر إلى هذا ، وعن أبي حمزة الثمالي أن الآية صوت يسمع من السماء في نصف شهر رمضان وتخرج له العواتق من البيوت ، وهذا قول بتحقق الإنزال بعد وكأن ذلك زمان المهدي رضي الله تعالى عنه ، ومن صحة ما ذكر من الأخبار في القلب شيء والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) بيان لشدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما كانوا عليه من الكفر والتكذيب بغير ما ذكر من الآية الملجئة تأكيدا لصرف رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم عن الحرص على إسلامهم. ومن الأولى مزيدة لتأكيد العموم ، وجوز أن تكون تبعيضية ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو صفة لمقدر كما نشير إليه إن شاء الله تعالى ، والثانية لابتداء الغاية مجازا متعلقة بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة لذكر ، وأيا ما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه وشناعة ما فعلوا به.
والتعرض لعنوان الرحمة لتغليظ شناعتهم وتهويل جنايتهم فإن الإعراض عما يأتيهم من جنابه جل وعلا على الإطلاق شنيع قبيح وعما يأتيهم بموجب رحمته تعالى لمحض منفعتهم أشنع وأقبح أي ما يأتيهم تذكير وموعظة أو طائفة من القرآن من قبله عزوجل بمقتضى رحمته الواسعة يجدد تنزيله حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة إلا جددوا إعراضا عنه واستمروا على ما كانوا عليه ، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على الحالية من مفعول (يَأْتِيهِمْ) بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور أي ما يأتيهم من ذكر في حال من الأحوال إلا حال كونهم معرضين عنه (فَقَدْ كَذَّبُوا) أي بالذكر الذي يأتيهم تكذيبا صريحا مقارنا للاستهزاء به ولم يكتفوا بالإعراض عنه حيث جعلوه تارة سحرا وتارة أساطير الأولين وأخرى شعرا.
وقال بعض الفضلاء : أي فقد تموا على التكذيب وكان تكذيبهم مع ورود ما يوجب الإقلاع من تكرير إتيان الذكر كتكذيبهم أول مرة ، وللتنبيه على ذلك عبر عنه بما يعبر عن الحادث ويشعر باعتبار مقارنة الاستهزاء حسبما أشير إليه قوله تعالى : (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) لاقتضائه تقدم الاستهزاء ، وقيل : إن ذاك لدلالة الإعراض والتكذيب على الاستهزاء ، والمراد بأنباء ذلك ما سيحيق بهم من العقوبات العاجلة والآجلة وكل آت قريب ، وقيل : من عذاب يوم بدر أو يوم القيامة والأول أولى ، وعبر عن ذلك بالأنباء لكونه مما أنبأ به القرآن العظيم أو لأنهم بمشاهدته يقفون على حقيقة حال القرآن كما يقفون على الأحوال الخافية عنهم باستماع الأنباء. وفيه تهويل له لأن النبأ يطلق على الخبر الخطير الذي له وقع عظيم أي فسيأتيهم لا محالة مصداق ما كانوا يستهزءون به قبل من غير أن يتدبروا في أحواله ويقفوا عليها.
وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ) بيان لإعراضهم عن الآيات التكوينية بعد بيان إعراضهم عن الآيات التنزيلية ، والهمزة للإنكار التوبيخي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أأصروا على ما هم عليه من الكفر بالله