يستفاد من قوله تعالى : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) كأنه قيل : ابتلاهم الله تعالى برؤية ذلك الخطب ليجزي الآية ، واختاره الطيبي قائلا : إنه طريق أسهل مأخذا وأبعد عن التعسف وأقرب إلى المقصود من جعله تعليلا للمنطوق والمعرض به ، واختار شيخ الإسلام كونه متعلقا بمحذوف والكلام مستأنف مسوق بطريق الفذلكة لبيان ما هو داع إلى وقوع ما حكي من الأقوال والأفعال على التفصيل وغاية كما في قوله تعالى : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) [الأحزاب : ٨] كأنه قيل : وقع جميع ما وقع ليجزي الله إلخ ، وهو عندي حسن وإن كان فيه حذف فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) أي لمن تاب ، وهذا اعتراض فيه بعث إلى التوبة.
وقوله سبحانه : (وَرَدَّ اللهُ) إلخ رجوع إلى حكاية بقية القصة وتفصيل لتتمة النعمة المشار إليها إجمالا بقوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) [الأحزاب : ٩] وهو معطوف على (أرسلنا) وقد وسط بينهما بيان كون ما نزل بهم واقعة طامة تحيرت به العقول والأفهام وداهية تحاكت فيها الركب وزلت الأقدام ، وتفصيل ما صدر عن فريقي أهل الإيمان وأهل الكفر والنفاق من الأحوال والأقوال لإظهار عظم النعمة وإبانة خطرها الجليل ببيان وصولها إليهم عند غاية احتياجهم إليها أي فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ورددنا بذلك (الَّذِينَ كَفَرُوا) والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة ، وجوز شيخ الإسلام ولعل صنيعه يشير إلى أولويته حيث بدأ به كونه معطوفا على فاعلي المقدر قبل : (لِيَجْزِيَ اللهُ) كأنه قيل إثر حكاية الأمور المذكورة وقع ما وقع من الحوادث ورد الله الذين كفروا وقيل هو معطوف من حيث المعنى على قوله تعالى (لِيَجْزِيَ) كأنه قيل فكان عاقبة الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه أن جزاهم الله تعالى بصدقهم ورد أعدائهم وهذا الرد من جملة جزائهم على صدقهم وهو كما ترى ، والمراد بالذين كفروا الأحزاب على ما روي غير واحد عن مجاهد ، والظاهر أنه عنى المشركين واليهود الذين تحزبوا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه فسر ذلك بأبي سفيان ، وأصحابه ، ولعله الأولى ، وعلى القولين المراد رد الله الذين كفروا من محل اجتماعهم حول المدينة وتحزبهم إلى مساكنهم (بِغَيْظِهِمْ) حال من الموصول لا من ضمير (كَفَرُوا) والباء للملابسة أي ملتبسين بغيظهم وهو أشد الغضب ، وقوله تعالى : (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) حال من ذاك أيضا أو من ضمير (بِغَيْظِهِمْ) أي غير ظافرين بخير أصلا ، وفسر بعضهم الخير بالظفر بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين ، وإطلاق الخير عليه مبني على زعمهم ، وفسره بعضهم بالمال كما في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [العاديات : ٨] والأولى أن يراد به كل خير عندهم فالنكرة في سياق النفي تعم ، وجوز أن يكون الجملة مستأنفة لبيان سبب غيظهم أو بدلا (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) أي وقاهم سبحانه ذلك ، و (كَفَى) هذه تتعدى لاثنين ، وقيل : هي بمعنى أغنى وتتعدى إلى مفعول واحد.
والكلام هنا على الحذف والإيصال والأصل وكفى الله المؤمنين عن القتال أي أغناهم سبحانه عنه ولا وجه له وهذه الكفاية كانت كما أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة بالريح والملائكة عليهالسلام ، وقيل : بقتل علي كرم الله تعالى وجهه عمرو بن عبد ود.
وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ هذا الحرف «وكفى الله المؤمنين القتال بعلي بن أبي طالب» وفي مجمع البيان هو المروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ولا يكاد يصح ذلك ، والظاهر ما روي عن قتادة لمكان قوله تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) [الأحزاب : ٩] وكأن المراد بالقتال الذي كفاهم الله تعالى إياه القتال على الوجه المعروف من تعبية الصفوف والرمي