كتاب له وغيظ من شمتهم من كفار مكة وكون ذلك مما يتفاءل به لغلبة المؤمنين على الكفار ، وقيل : نصر الله تعالى صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس ، وقيل : نصره عزوجل أنه ولّى بعض الظالمين بعضا وفرق بين كلمتهم حتى تناقضوا وتحاربوا وقلل كل منهما شوكة الآخر ، وعن أبي سعيد الخدري أنه وافق ذلك يوم بدر ، وفيه من نصر الله تعالى العزيز للمؤمنين وفرحهم بذلك ما لا يخفى ، والأول أنسب لقوله تعالى : (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) أي من يشاء أن ينصره من عباده على عدوه ويغلبه عليه فإنه استئناف مقرر لمضمون قوله تعالى : (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) والظاهر أن (يوم) متعلق بيفرح وكذا (بِنَصْرِ) وجوز تعلق (يوم) به ، وكذا جوز تعلق (بِنَصْرِ) بالمؤمنين ، وقيل : (يَوْمَئِذٍ) عطف على قبل أو بعد كأنه حصر الأزمنة الثلاثة الماضي والمستقبل والحال ثم ابتدأ الاخبار بفرح المؤمنين (وَهُوَ الْعَزِيزُ) المبالغ في العزة والغلبة فلا يعجزه من شاء أن ينصر عليه كائنا من كان (الرَّحِيمُ) المبالغ في الرحمة فينصر من يشاء أن ينصره أي فريق كان ، والمراد بالرحمة هنا هي الدنيوية ، أما على القراءة المشهورة فظاهر لأن كلا الفريقين لا يستحق الرحمة الأخروية ، وأما على القراءة الأخيرة فلأن المسلمين وإن كانوا مستحقين لها لكن المراد هاهنا نصرهم الذي هو من آثار الرحمة الدنيوية ، وتقديم وصف (الْعَزِيزُ) لتقدمه في الاعتبار.
(وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة من قوله تعالى : (سَيَغْلِبُونَ) وقوله سبحانه : (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) ويقال له المؤكد لنفسه لأن ذلك في معنى الوعد وعامله محذوف وجوبا كأنه قيل : وعد الله تعالى ذلك وعدا (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) أي وعد كان مما يتعلق بالدنيا والآخرة لما في خلفه من النقص المستحيل عليه عزوجل ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للتعليل الحكمي وتفخيمه ، والجملة استئناف مقرر لمعنى المصدر ، وجوز أن يكون حالا منه فيكون كالمصدر الموصوف كأنه سبحانه يقول : وعد الله تعالى وعدا غير مخلف (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أنه تعالى لا يخلف وعده لجهلهم بشئونه عزوجل وعدم تفكرهم فيما يجب له جلّ شأنه وما يستحيل عليه سبحانه أو لا يعلمون ما سبق من شئونه جلّ وعلا ، وقيل : لا يعلمون شيئا أو ليسوا من أولي العلم حتى يعلموا ذلك (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) وهو ما يحسون به من زخارفها وملاذها وسائر أحوالها الموافقة لشهواتهم الملائمة لأهوائهم المستدعية لانهماكهم فيها وعكوفهم عليها.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعلمون منافعها ومضارها ومتى يزرعون ومتى يحصدون وكيف يجمعون وكيف يبنون أي ونحو ذلك مما لا يكون لهم منه أثر في الآخرة ، وروي نحوه عن قتادة ، وعكرمة.
وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في الآية : بلغ من حذق أحدهم بأمر دنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن يصلي ، وقال الكرماني : كل ما يعلم بأوائل الروية فهو الظاهر وما يعلم بدليل العقل فهو الباطن وقيل : هو هنا التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها ، وتعقب بأنهما ليسا مما علموه منها بل من أفعالهم المرتبة على علمهم ، وعن ابن جبير أن الظاهر هو ما علموه من قبل الكهنة مما تسترقه الشياطين ، وليس بشيء كما لا يخفى ، وأيا ما كان فالظاهر أن المراد بالظاهر مقابل الباطن ، وتنويه للتحقير والتخسيس أي يعلمون ظاهرا حقيرا خسيسا ؛ وقيل : هو بمعنى الزائل الذاهب كما في قول الهذلي :
وعيرها الواشون أني أحبها |
|
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها |
أي يعلمون أمرا زائلا لا بقاء له ولا عاقبة من الحياة الدنيا (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) التي هي الغاية القصوى والمطلب الأسنى (هُمْ غافِلُونَ) لا تخطر ببالهم فكيف يتفكرون فيها وفيما يؤدي إلى معرفتها من الدنيا وأحوالها ،