والإحسان هو المقصود بالذات والمحتاج إلى الإثبات فجعله ذريعة إلى إثبات معاد ما عداه مع كونه بمعزل من الأجزاء تعكيس للأمر فتدبر. وجوز أبو حيان أن يكون (ما خَلَقَ) إلخ مفعول (يَتَفَكَّرُوا) معلقا عنه بالنفي ، وأنت تعلم أن التعليق في مثله ممنوع أو قليل ، وقوله تعالى :
(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) تذييل مقرر لما قبله ببيان أن أكثرهم غير مقتصرين على ما ذكره من الغفلة من أحوال الآخرة والأعراض عن التفكر فيما يرشدهم إلى معرفتها من خلق السماوات والأرض وما بينهما من المصنوعات بل هم منكرون جاحدون لقاء حسابه تعالى وجزائه عزوجل بالبعث ، وهم القائلون بأبدية الدنيا كالفلاسفة على المشهور (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) توبيخ لهم بعدم اتعاظهم بمشاهدة أحوال أمثالهم الدالة على عاقبتهم ومآلهم ؛ والهمزة للإنكار التوبيخي أو الإبطالي وحيث دخلت على النفي وإنكار النفي إثبات قيل : إنها لتقرير المنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أقعدوا في أماكنهم ولم يسيروا في الأرض ، وقوله تعالى : (فَيَنْظُرُوا) عطف على يسيروا داخل في حكمه والمعنى أنهم قد ساروا في أقطار الأرض وشاهدوا (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم المهلكة كعاد ، وثمود ، وقوله تعالى : (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) إلخ بيان لمبدأ أحوالهم ومآلها يعني أنهم كانوا أقدر منهم على التمتع بالحياة الدنيا حيث كانوا أشد منهم قوة (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) أي قلبوها للحرث والزراعة كما قال الفراء ، وقيل : لاستنباط المياه واستخراج المعادن وغير ذلك.
وقرأ أبو جعفر «وآثاروا» بمدة بعد الهمزة ، وقال ابن مجاهد : ليس بشيء وخرج ذلك أبو الفتح على الإشباع كقوله.
ومن ذم الزمان بمنتزاح*
وذكر أن هذا من ضرورة الشعر ولا يجيء في القرآن ، وقرأ أبو حيوة وأثروا من الأثرة وهو الاستبداد بالشيء وآثروا الأرض أي أبقوا فيها آثارا (وَعَمَرُوها) أي وعمرها أولئك الذين كانوا قبلهم بفنون العمارات من الزراعة والغرس والبناء وغيرها ، وقيل : أي أقاموا بها ، يقال عمرت بمكان كذا وعمرته أي أقمت به (أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) أي عمارة أكثر من عمارة هؤلاء إياها والظاهر أن الأكثرية اعتبارا لكم وعممه بعضهم فقال : أكثر كما وكيفا وزمانا ، وإذا أريد العمارة بمعنى الإقامة فالمعنى أقاموا بها إقامة أكثر زمانا من إقامة هؤلاء بها ، وفي ذكر أفعل تهكم بهم إذ لا مناسبة بن كفار مكة وأولئك الأمم المهلكة فإنهم كانوا معروفين بالنهاية في القوة وكثرة العمارة وأهل مكة ضعفا ملجئون إلى واد غير ذي زرع يخافون أن يتخطفهم الناس ، ونحو هذا يقال إذا سرت العمارة بالإقامة فإن أولئك كانوا مشهورين بطول الأعمار جدا وأعمار أهل مكة قليلة بحيث لا مناسبة يعتد بها بينها وبين أعمال أولئك المهلكين.
(وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات أو الآيات الواضحات (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) أي فكذبوهم فأهلكهم فما كان الله تعالى شأنه ليهلكهم من غير جرم يستدعيه من قبلهم ، وفي التعبير عن ذلك بالظلم اظهار لكمال نزاهته تعالى عنه وإلا فقد قال أهل السنة : إن إهلاكه تعالى من غير جرم ليس من الظلم في شيء لأنه عزوجل مالك والمالك يفعل بملكه ما يشاء والنزاع في المسألة شهير (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث ارتكبوا باختيارهم من المعاصي ما أوجب بمقتضى الحكمة ذلك ، وتقديم (أَنْفُسَهُمْ) على (يَظْلِمُونَ) للفاصلة ؛ وجوز أن يكون للحصر بالنسبة إلى الرسل الذين يدعونهم (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا) أي عملوا السيئات ، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالإساءة والإشعار بعلة الحكم ، و (ثُمَ) للتراخي الحقيقي أو للاستبعاد والتفاوت في الرتبة (السُّواى) أي العقوبة السوأى وهي العقوبة بالنار فإنها تأنيث الأسوأ كالحسنى تأنيث الأحسن أو مصدر كالبشرى وصف به العقوبة مبالغة كأنها نفس السوء ، وهي مرفوعة على أنها اسم وكان خبرها (عاقِبَةَ).