وذكر الميداني عن الكلبي عن أبي صالح أن طريفة الكاهنة قد رأت في كهانتها أن سد مأرب سيخرب وأنه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنتين فباع عمرو بن عامر أمواله وسار هو وقومه حتى انتهوا إلى مكة فأقاموا بها وبما حولها فأصابتهم الحمى وكانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحمى فدعوا طريفة فشكوا إليها الذي أصابهم فقالت لهم : أصابني الذي تشكون وهو مفرق بيننا قالوا فما ذا تأمرين قالت : من كان منكم ذا هم بعيد وجمل شديد ومزاد جديد فليلحق بقصر عمان المشيد فكانت أزد عمان ثم قالت : من كان منكم ذا جلد وقسر وصبر على أزمات الدهر فعليه بالأراك من بطن مر فكانت خزاعة ثم قالت : من كان منكم يريد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل فكانت الأوس والخزرج ثم قالت : من كان منكم يريد الخمر والخمير والملك والتأسير ويلبس الديباج والحرير فليلحق ببصرى وغوير وهما من أرض الشام فكان الذين سكنوها آل جفنة من غسان ثم قالت : من كان منكم يريد الثياب الرقاق والخيل العتاق وكنوز الأرزاق والدم المهراق فليلحق بأرض العراق فكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش ومن كان بالحيرة وآل محرق ، والحق أن تمزيقهم وتفريقهم في البلاد كان بعد إرسال السيل ، نعم لا يبعد خروج بعضهم قبيله حين استشعروا وقوعه ، وفي المثل ذهبوا أيدي سبأ ويقال تفرقوا أيدي سبأ ويروى أيادي وهو بمعنى الأولاد لأنهم أعضاد الرجل لتقويه بهم.
وفي المفصل أن الأيدي الأنفس كناية أو مجازا قال في الكشف : وهو حسن ، ونصبه على الحالية بتقدير مثل لاقتضاء المعنى إياه مع عدم تعرفه بالإضافة ، وقيل : إنه بمعنى البلاد أو الطرق من قولهم خذ يد البحر أي طريقه وجانبه أي تفرقوا في طرق شتى ، والظاهر أنه على هذا منصوب على الظرفية بدون تقدير ـ في ـ كما أشار إليه الفاضل اليمني ، وربما يظن أن الأيدي أو الأيادي بمعنى النعم وليس كذلك ، ويقال في الشخص إذا كان مشتت الهم موزع الخاطر كان أيادي سبأ ، وعليه قول كثيّر عزة :
أيادي سبأ يا عز ما كنت بعدكم |
|
فلم يحل بالعينين بعدك منظر |
(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي فيما ذكر من قصتهم (لَآياتٍ) عظيمة (لِكُلِّ صَبَّارٍ) أي شأنه الصبر على الشهوات ودواعي الهوى وعلى مشاق الطاعات ، وقيل : شأنه الصبر على النعم بأن لا يبطر ولا يطغى وليس بذاك (شَكُورٍ) شأنه الشكر على النعم ، وتخصيص هؤلاء بذلك لأنهم المنتفعون بها (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) أي حقق عليهم ظنه أو وجد ظنه صادقا ، والظاهر أن ضمير (عَلَيْهِمْ) عائد على سبأ ، ومنشأ ظنه رؤية انهماكهم في الشهوات ، وقيل : هو لبني آدم ومنشأ ظنه أنه شاهد أباهم آدم عليهالسلام وهو هو قد أصغى إلى وسوسته فقاس الفرع على الأصل والولد على الوالد ، وقيل : إنه أدرك ما ركب فيهم من الشهوة والغضب وهما منشآن للشرور ، وقيل : إن ذاك كان ناشئا من سماع قول الملائكة عليهمالسلام : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] يوم قال سبحانه لهم : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ويمكن أن يكون منشأ ذلك ما هو عليه من السوء كما قيل :
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه |
|
وصدق ما يعتاده من توهم |
وجوز أن يكون كل ما ذكر منشأ لظنه في سبأ ، والكلام على الوجه الأول في الضمير على ما قال الطيبي تتمة لسابقه إما حلالا أو عطفا ، وعلى الثاني هو كالتذييل تأكيدا له. وقرأ البصريون «صدق» بالتخفيف فنصب «ظنّه» على إسقاط حرف الجر والأصل صدق في ظنه أي وجد ظنه مصيبا في الواقع فصدق حينئذ بمعنى أصاب مجازا.
وقيل هو منصوب على أنه مصدر لفعل مقدر أي يظن ظنه كفعلته جهدك أي تجهد جهدك ، والجملة في موقع