والظاهر أن قوله تعالى : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) من تتمة كلام الشفعاء قالوه اعترافا بعظمة جناب العزة جل جلاله وقصور شأن كل من سواه أي هو جل شأنه المتفرد بالعلو والكبرياء لا يشاركه في ذلك أحد من خلقه وليس لكل منهم كائنا من كان أن يتكلم إلا من بعد إذنه جل وعلا ، وفيه من تواضعهم بعد ترفيع قدرهم بالإذن لهم بالشفاعة ما فيه ، وفيه أيضا نوع من الحمد كما لا يخفى وهذه الجملة المغياة بما ذكر لا يبعد أن تكون جوابا بالسؤال مقدر كأنه قيل : كيف يكون الإذن في ذلك الموقف للمستأذنين وكيف الحال فيه للشافعين والمستشفعين؟ فقيل : يقفون منتظرين وجلين فزعين حتى إذا إلخ ، والآيات دالة على أن المشفوع لهم هم المؤمنون وأما الكفرة فهم عن موقف الاستشفاع بمعزل وعن التفزيع عن قلوبهم بألف ألف منزل ، وجعل بعضهم على هذا الوجه من كون المغيا ما ذكر ضمير (قُلُوبِهِمْ) للملائكة وخص الشفعاء بهم وضمير (قالُوا) الأول لهم أيضا وضمير (قالُوا) الثاني للملائكة الذين فوقهم وهم الذين يبلغون ذلك إليهم وقال : إن فزعهم إما لما يقرن به الإذن من الأمر الهائل أو لغشية تصيبهم عند سماع كلام الله جل شأنه أو من ملاحظة وقوع التقصير في تعيين المشفوع لهم بناء على ورود الإذن بالشفاعة إجمالا وهو كما ترى.
وقال الزجاج : تفسير هذا أن جبريل عليهالسلام لما نزل إلى النبي صلىاللهعليهوسلم بالوحي ظنت الملائكة عليهمالسلام أنه نزل بشيء من أمر الساعة ففزعت لذلك فلما انكشف عنها الفزع قالوا : ما ذا قال : ربكم سألت لأي شيء نزل جبريل عليهالسلام قالوا : الحق ا ه.
روي ذلك عن قتادة ومقاتل وابن السائب بيد أنهم قالوا : إن الملائكة صعقوا لذلك فجعل جبريل عليهالسلام يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع ويخبرهم أنه الوحي ، ولم يبين الزجاج وجه اتصال الآية بما قبلها ولا بحث عن الغاية بشيء وقد ذكر نحو ذلك الإمام الرازي ثم قال في ذلك : أن (حَتَّى) غاية متعلقة بقوله تعالى : (قُلِ) لأنه تبينه بالوحي فلما قال سبحانه (قُلِ) فزع من في السماوات وهو لعمري من العجب العجاب.
وقال الفاضل الطيبي بعد نقله ذلك التفسير : وعليه أكثر كلام المفسرين ويعضده ما روينا عن البخاري والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله تعالى كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ما ذا قال ربكم ، قالوا الذي قال الحق وهو العلي الكبير» وعن أبي داود عن ابن مسعود قال : «إذا تكلم الله تعالى بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا أتاهم جبريل عليهالسلام فرّع عن قلوبهم فيقولون : يا جبريل ما ذا قال ربكم؟ فيقول : الحق الحق» ثم ذكر في أمر الغاية واتصال الآية بما قبلها على ذلك أنه يستخرج معنى المغيا من المفهوم وذلك إن المشركين لما ادعوا شفاعة الآلهة والملائكة وأجيبوا بقوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) من الأصنام والملائكة وسميتموهم باسمه تعالى والتجئوا إليهم فإنهم لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا تنفع الشفاعة من هؤلاء إلا للملائكة لكن من الإذن والفزع العظيم وهم لا يشفعون إلا للمرضيين فعبر عن الملائكة عليهمالسلام بقوله تعالى : (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) الآية كناية كأنه قيل : لا تنفع الشفاعة إلا لمن هذا شأنه ودأبه وأنه لا يثبت عند صدمة من صدمات هذا الكتاب المبين وعند سماع كلام الحق يعني الذين إذا نزل عليهم الوحي يفزعون ويصعقون حتى إذا أتاهم جبريل عليهالسلام فزع عن قلوبهم فيقولون : ما ذا قال ربكم؟ فيقول : الحق انتهى ، ولا يخفى على من له أدنى تمييز حاله وأنه مما لا ينبغي أن يعول عليه.