إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً)(٤٥)
(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) أي يداومون على قراءته حتى صارت سمة لهم وعنوانا كما يشعر به صيغة المضارع ووقوعه صلة واختلاف الفعلين والمراد بكتاب الله القرآن فقد قال مطرف بن عبد الله بن الشخير : هذه آية القراء.
وأخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس أنها نزلت في حصين بن الحارث بن عبد المطلب القرشي ، ثم إن العبرة بعموم اللفظ فلذا قال السدي في التالين : هم أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال عطاء : هم المؤمنون أي عامة وهو الأرجح ويدخل الأصحاب دخولا أوليا ، وقيل معنى يتلون كتاب الله يتبعونه فيعملون بما فيه ، وكأنه جعل يتلو من تلاه إذا تبعه أو حمل التلاوة المعروفة على العمل لأنها ليس فيها كثير نفع دونه ، وقد ورد : «رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه» ويشعر كلام بعضهم باختيار المعنى المتبادر حيث قال : إنه تعالى لما ذكر الخشية وهي عمل القلب ذكر بعدها علم اللسان والجوارح والعبادة المالية ، وجوز أن يراد بكتاب الله تعالى جنس كتبه عزوجل الصادق على التوراة والإنجيل وغيرهما فيكون ثناء على المصدقين من الأمم بعد اقتصاص حال المكذبين بقوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) إلخ والمضارع لحكاية الحال الماضية ، والمقصود من الثناء عليهم وبيان ما لهم حث هذه الأمة على اتباعهم وأن يفعلوا نحو ما فعلوا ، والوجه الأول أوجه كما لا يخفى وعليه الجمهور.
(وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) أي مسرين ومعلنين أو في سر وعلانية ، والمراد ينفقون كيفما اتفق من غير قصد إليهما ، وقيل السر في الإنفاق المسنون والعلانية في الإنفاق المفروض ، وفي كون الإنفاق مما رزقوا إشارة إلى أنهم لم يسرفوا ولم يبسطوا أيديهم كل البسط ، ومقام التمدح مشعر بأنهم تحروا الحلال الطيب ، وقيل جيء بمن لذلك ، والمعتزلة يخصون الرزق بالحلال وهو أنسب بإسناد الفعل إلى ضمير العظمة ، ومن لا يخصه بالحلال يقول هو التعظيم والحث على الإنفاق (يَرْجُونَ) بما آتوا من الطاعات (تِجارَةً) أي معاملة مع الله تعالى لنيل ربح الثواب على أن التجارة مجاز عما ذكر والقرينة حالية كما قال بعض الأجلة ، وقوله تعالى : (لَنْ تَبُورَ) أي لن تكسد ، وقيل لن تهلك بالخسران صفة تجارة وترشيح للمجاز ، وجملة (يَرْجُونَ) إلخ على ما قال الفراء وأبو البقاء خبر إن ، وفي إخباره تعالى عنهم بذلك إشارة إلى أنهم لا يقطعون بنفاق تجارتهم بل يأتون ما آتوا من الطاعات وقلوبهم وجلة أن لا يقبل منهم ، وجعل بعضهم التجارة مجازا عن تحصيل الثواب بالطاعة وأمر الترشيح على حاله وإليه ذهب أبو السعود ثم قال : والإخبار برجائهم من أكرم الأكرمين عدة قطعية بحصول مرجوهم.
وظاهر ما روي عن قتادة من تفسيره التجارة بالجنة أنها مجاز عن الربح وفسر (لَنْ تَبُورَ) بلن تبيد وهو كما ترى ، وقوله تعالى : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) متعلق عند بعض بما دل عليه لن تعلق (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) في قوله تعالى : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم : ٢] بما دل عليه ـ ما ـ لا بالحرف إذ لا يتعلق الجار به على المشهور أي ينتفي الكساد عنها وتنفق عند الله تعالى ليوفيهم أجور أعمالهم (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) على ذلك من خزائن رحمته ما يشاء وعن أبي وائل زيادته تعالى إياهم بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم.
وقال الضحاك : بتفسيح القلوب ، وفي الحديث بتضعيف حسناتهم ، وقيل بالنظر إلى وجهه تعالى الكريم.
والظاهر أن (مِنْ فَضْلِهِ) راجع لما عنده ففيه إشارة إلى أن توفية أجورهم كالواجب لكونه جزاء لهم بوعده