أالخير الذي أنا أبتغيه |
|
أم الشر الذي لا يأتليني |
حيث ذكر الخير وحده وقال أيهما أي الخير والشر ، وقد علم أن الخير والشر يعرضان للإنسان ، واختار الزمخشري ما تقدم ثم قال : والدليل عليه قوله تعالى : (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) ألا ترى كيف جعل الأقماح نتيجة (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الأقماح ظاهرا على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف ، وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطن الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج ا ه ، وصاحب الانتصاف أراد الانتصار للجماعة فقال : يحتمل أن يكون الفاء في (فَهُمْ مُقْمَحُونَ) للتعقيب كسابقه أو للتسبب فإن ضغط اليد مع العنق يوجب الإقماح لأن اليد تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن رافعة لها ولأن اليد إذا كانت مطلقة كانت راحة للمغلول فربما يتحيل بها على فكاك الغل فيكون منبها على انسداد باب الحيلة ا ه.
قال صاحب الكشف : والجواب أنه لا فخامة للتعقيب المجرد ، ثم إن ما ذكره الزمخشري وقد أشرنا إليه نحن فيما سبق مستقل في حصول الأقماح فأين التعقيب ، وبه خرج الجواب عن التسبب ، وقوله ولأن اليد إلخ لا يستقل جوابا دون الأولين ا ه ، وعلى العلات رجوع الضمير إلى الأغلال هو الحري بالاعتبار وبلاغة الكتاب الكريم تقتضيه ولا تكاد تلتفت إلى غيره (وَجَعَلْنا) عطف على (جَعَلْنا) السابق (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) من قدامهم (سَدًّا) عظيما وقيل نوعا من السد (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) من ورائهم (سَدًّا) كذلك والقدام والوراء كناية عن جميع الجهات (فَأَغْشَيْناهُمْ) فغطينا بما جعلناه من السد أبصارهم ، وعن مجاهد (فَأَغْشَيْناهُمْ) فألبسنا أبصارهم غشاوة (فَهُمْ) بسبب ذلك (لا يُبْصِرُونَ) لا يقدرون على إبصار شيء ما أصلا.
وقرأ جمع من السبعة وغيرهم «سدا» بضم السين وهي لغة فيه ، وقيل ما كان من عمل الناس فهو بالفتح وما كان من خلق الله تعالى فهو بالضم ، وقيل بالعكس. وقرأ ابن عباس وعمر بن عبد العزيز وابن يعمر وعكرمة والنخعي وابن سيرين والحسن وأبو رجاء وزيد بن علي وأبو حنيفة ويزيد البربري ويزيد بن المهلب وابن مقسم «فأغشيناهم» بالعين من العشا وهو ضعف البصر ، ومجموع المتعاطفين من قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا) إلخ تأكيد وتقرير لما دل عليه قوله سبحانه : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) إلخ من سوء اختيارهم وقبح حالهم فإن جعل الله تعالى إياهم بما أظهر فيهم من الإعجاب العظيم بأنفسهم مستكبرين عن اتباع الرسل عليهمالسلام شامخين برءوسهم غير خاضعين لما جاءوا به وسد أبواب النظر فيما ينفعهم عليهم بالكلية ليس إلا لأنهم سيئو الاختيار وقبيحو الأحوال قد عشقت ذواتهم ما هم عليه عشقا ذاتيا وطلبته طلبا استعداديا فلم تكن لها قابلية لغيره ولم تلتفت إلى ما سواه ، وإذا قايست بين ذواتهم ، وما هم عليه وبين الجسم والحيز أو الثلاثة والفردية مثلا لم تكد تجد فرقا (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [النحل : ٣٣] ففي الكلام تشبيهات متعددة كما لوحنا إليه ، وهذا الوجه هو الذي يقتضيه ما عليه كثير من الأجلة وإن لم يذكروه في الآية ، وفي الانتصاف إذا فرق التشبيه كان تصميمهم على الكفر مشبها بالأغلال وكان استكبارهم عن قبول الحق والتواضع لاستماعه مشبها بالإقماح لأن المقمح لا يطأطأ رأسه ، وقوله تعالى : (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) تتمة للزوم الإقماح لهم وكان عدم النظر في أحوال الأمم الخالية مشبها بسد من خلفهم وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبها بسد من قدامهم وفي التيسير جمع الأيدي إلى الأذقان بالأغلال عبارة عن منع التوفيق حتى استكبروا عن الحق لأن المتكبر يوصف برفع العنق والمتواضع بضده كما في قوله تعالى : (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) [الشعراء : ٤] ولم يذكر المراد بجعل السد ، وذكر الإمام أن المانع عن النظر في الآيات قسمان قسم يمنع عن النظر في الأنفس فشبه ذلك بالغل الذي يجعل صاحبه مقمحا لا يرى نفسه ولا يقع بصره على بدنه وقسم يمنع عن