التحتية وهو عطف على «ليكفروا» (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) التفات من الخطاب إلى الغيبة إيذانا بالإعراض عنهم وتعديدا لجناياتهم لغيرهم بطريق المباثة ، و (أَمْ) منقطعة ، والسلطان لحجة فالإنزال مجاز عن التعليم أو الإعلام ، وقوله تعالى : (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) بمعنى فهو يدل على أن التكلم مجاز عن الدلالة ، ولك أن تعتبر هنا جميع ما اعتبروه في قولهم : نطقت الحال من الاحتمالات ، ويجوز أن يراد بسلطانا ذا سلطان أي ملكا معه برهان فلا مجاز أولا وآخرا.
وجملة هو (يَتَكَلَّمُ) جواب للاستفهام الذي تضمنته (أَمْ) إذ المعنى بل أأنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم (بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي بإشراكهم بالله عزوجل ، وصحته على أن (ما) مصدرية وضمير (بِهِ) له تعالى أو بالأمر الذي يشركون بسببه وألوهيته على أن (ما) موصولة وضمير (بِهِ) لها والباء سببية ، والمراد نفي أن يكون لهم مستمسك يعول عليه في شركهم (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) أي نعمة من صحة وسعة ونحوهما (فَرِحُوا بِها) بطرا وأشرا فإنه الفرح المذموم دون الفرح حمدا وشكرا ، وهو المراد في قوله تعالى : «قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا» وقال الامام : المذموم الفرح بنفس الرحمة والممدوح الفرح برحمة الله تعالى من حيث إنها مضافة إلى الله تعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) شدة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بشؤم معاصيهم (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) أي فاجئوا القنوط من رحمته عزوجل ، والتعبير بإذا أولا لتحقق الرحمة وكثرتها دون المقابل ، وفي نسبة الرحمة إليه تعالى دون السيئة تعليم للعباد أن لا يضاف إليه سبحانه الشر وهو كثير كقوله تعالى : (أَنْعَمْتَ) و (الْمَغْضُوبِ) في [الفاتحة : ٧] ، وعدم بيان سبب إذاقة الرحمة وبيان سبب إصابة السيئة إشارة إلى أن الأول تفضل والثاني عدل ، والتعبير بالمضارع في (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) لرعاية الفاصلة والدلالة على الاستمرار في القنوط ، والمراد بالناس إما فريق آخر غير الأول على أن التعريف للعهد أو للجنس وإما الفريق الأول لكن الحكم الأول ثابت لهم في حال تدهشهم كمشاهدة العرق وهذا الحكم في حال آخر لهم فلا مخالفة بين قوله تعالى : «وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه» وقوله سبحانه : «وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم ينقطون» فلا يحتاج إلى تكلف التوفيق بأن الدعاء اللساني جار على العادة فلا ينافي القنوط القلبي ولذا سمع بعض الخائضين في دم عثمان رضي الله تعالى عنه يدعو في طوافه ويقول : اللهم اغفر لي ولا أظنك تفعل ، أو المراد يفعلون فعل القانطين كالاهتمام بجمع الذخائر أيام الغلاء ، ولا يخفى أن في المفاجأة نبوة ما عن هذا فتأمل.
وقرئ «يقنطون» بكسر النون (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي ألم ينظروا ولم يشاهدوا (أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أن يبسطه تعالى له (وَيَقْدِرُ) أي ويضيقه على من يشاء أن يضيقه عليه ، وهذا إما باعتبار شخصين أو باعتبار شخص واحد في زمانين ، والمراد إنكار فرحهم وقنوطهم في حالتي الرخاء والشدة أي أو لم يروا ذلك فما لهم لم يشكروا ولم يحتسبوا في السراء والضراء كالمؤمنين (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور أي البسط وضده أو جميع ما ذكر (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة ولله تعالى در من قال :
نكد الأريب وطيب عيش الجاهل |
|
قد أرشداك إلى حكيم كامل |
قال الطيبي : كانت الفاصلة قوله تعالى : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إيذانا بأنه تعالى يفعل ذلك بمحض مشيئته سبحانه وليس الغنى بفعل العبد وجهده ولا العدم بعجزه وتقاعده ولا يعرف ذلك إلا من آمن بأن ذلك تقدير العزيز العليم كما قال :
كم من أريب فهم قلبه |
|
مستكمل العقل مقلّ عديم |
ومن جهول مكثر ماله |
|
ذلك تقدير العزيز العليم |