جلت عظمته وعظمت وقدرته (عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي لا يطلبون العلم ولا يتحرون الحق بل يصرون على خرافات اعتقدوها وترهات ابتدعوها ، فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب المحق ، ومن هنا قالوا : هو شر من الجهل البسيط ، وما ألطف ما قيل :
قال حمار الحكيم توما |
|
لو أنصفوني لكنت أركب |
لأنني جاهل بسيط |
|
وصاحبي جاهل مركب |
وإطلاق العلم على الطلب مجاز لما أنه لازم له عادة ، وقيل : المعنى يطبع الله تعالى على قلوب الذين ليسوا من أولي العلم ، وليس بذاك ، والمراد من (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) يحتمل أن يكون الذين كفروا فيكون قد وضع الموصول موضع ضميرهم بما في حيز الصلة ، ويحتمل أن يكون عاما ويدخل فيه أولئك دخولا أوليا.
وظاهر كلام بعض الأجلة يميل إلى الاحتمال الأول ، وقد تقدم الكلام في طبعه وختمه عزوجل على القلب.
(فَاصْبِرْ) أي إذا علمت حالهم وطبع الله تعالى على قلوبهم فاصبر على مكارههم من الأقوال الباطلة والأفعال السيئة (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) وقد وعدك عزوجل بالنصرة وإظهار الدين وإعلاء كلمة الحق ولا بد من إنجازه والوفاء به لا محالة (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ) لا يحملنك على الخفة والقلق (الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) بما تتلو عليهم من الآيات البينة بتكذيبهم إياها وإيذائهم لك بأباطيلهم التي من جملتها قولهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) فإنهم شاكون ضالون ولا يستبدع أمثال ذلك منهم ، وقيل : أي لا يوقنون بأن وعد الله حق وهو كما ترى ، والحمل وإن كان لغيره صلى الله تعالى عليه وسلم لكن النهي راجع إليه عليه الصلاة والسلام فهو من باب لا أرينك هاهنا وقد مرّ تحقيقه فكأنه قيل : لا تخف لهم جزعا ، وفي الآية من إرشاده تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وتعليمه سبحانه له كيف يتلقى المكاره بصدر رحيب ما لا يخفى.
وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب «ولا يستحقنك» بحاء مهملة وقاف من الاستحقاق ، والمعنى لا يفتننك الذين لا يوقنون ويكونوا أحق بك من المؤمنين على أنه مجاز عن ذلك لأن من فتن أحدا استماله إليه حتى يكون أحق به من غيره ، والنهي على هذه القراءة راجع إلى أمته عليه الصلاة والسلام دونه صلى الله تعالى عليه وسلم لمكان العصمة ، وقد تقدّم نظائر ذلك وما للعلماء من الكلام فيها.
وقرأ الجمهور بتشديد النون وخففها ابن أبي عبلة ، ويعقوب ، ومن لطيف ما يروى ما أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، والبيهقي في سننه عن علي كرّم الله تعالى وجهه أن رجلا من الخوارج ناداه وهو في صلاة الفجر فقال : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) فأجابه كرّم الله تعالى وجهه وهو في الصلاة (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) ولا بدع في هذا الجواب من باب مدينة العلم وأخي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) إلى آخره ، قيل : الألف إشارة إلى إلفة طبع المؤمنين واللام إلى لؤم طبع الكافرين والميم إلى مغفرة رب العالمين جلّ شأنه ، والروم إشارة إلى القلب ، وفارس المشار إليهم بالضمير النائب عن الفاعل إشارة إلى النفس ، والمؤمنون إشارة إلى الروح والسر والعقل ، ففي الآية إشارة إلى أن حال أهل الطلب يتغير بتغير الأوقات فيغلب فارس النفس روم القلب تارة ويغلب روم القلب فارس النفس بتأييد الله تعالى ونصره سبحانه تارة أخرى وذلك في بضع سنين أيام الطلب ويومئذ يفرح المؤمنون