فأما إذا قلنا إنه القميص فكان يصحّ من جهة اللغة أن يخبر عن حاله بتقدير (١) مقاله ، فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال في بعض الأمور ، وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات بما تخبر عنه بما عليها من الصفات ، ومن أجلاه قول بعضهم : قال الحائط للوتد : لم تشقّنى. قال : سل من يدقّنى ، ما تركني ورائي هذا الذي ورائى ، ولكن قوله بعد ذلك : «من أهلها» في صفة الشاهد يبطل أن يكون القميص. وأما من قال : إنه ابن عمها أو رجل آخر من أصحاب العزيز ، فإنه محتمل ، لكن قوله : «من أهلها» يعطى اختصاصا من جهة القرابة. وأما من قال : إنه كان صغيرا فهو الذي يروى عن ابن عباس وأنه قد تكلم في المهد أربعة :
عيسى بن مريم ، وابن ماشطة فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، ونقصهم (٢) اثنان : أحدهما ـ وهو الذي ذكر النبىّ صلى الله عليه وسلم في قصة [أصحاب] (٣) الأخدود أنهم لما حفرت لهم الأرض ، ورمى فيها بالحطب ، وأوقدت النار عليها ، وعرض عليهم أن يقعوا فيها أو يكفروا ... الحديث بطوله ، فوقفت امرأة منهم ، وكان في ذراعها صبيّ فقال لها : يا أمه ، إنك على الحق. وهذا حديث صحيح ـ خرجه مسلم.
والثاني ـ ما روى أن امرأة كانت ترضع صبيّا في حجرها ، فمرّ بها رجل له شارة وحوله حفدة ، فقالت : اللهم اجعل ابني مثل هذا ، فترك الصبىّ الثدي ، وقال : اللهم لا تجعلني مثله ، ومرّ بامرأة (٤) وهم يضربونها ويقولون : سرقت ولم تسرق وزنت (٥) ولم تزن. فقالت : اللهم لا تجعل ابني مثلها ، فترك الصبى الثدي ، وقال : اللهم اجعلنى مثلها.
وأوحى إلى نبىّ ذلك الزمان أنّ الأول لا خير فيه ، وأنّ هذه يقولون فعلت وهي لم تفعل. هذا معنى الحديث.
فالذي صحّ فيمن (٦) تكلّم في المهد أربعة : صاحب الأخدود ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم ، وهذا الصبى الذي تكلم في حجر المرأة بالرد على أمه فيما اختارته وكرهه(٧).
__________________
(١) في م : بتقدم.
(٢) في م : وزاد بعضهم اثنين.
(٣) من م.
(٤) في م : فمرت امرأة مثل هذه.
(٥) في م : ويقولون : زنيت.
(٦) في ا : ممن.
(٧) في ا : وكرهته.