ومضى يعدد جميع قبائل مكة وفروعها ، ثم قال : إن الله أمرني أن أنذركم من عقابه ، وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا في الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا : لا إله إلا الله ، فنهض أبو لهب ـ وكان رجلا بدينا سريع الغضب ـ وصاح به : تبا لك سائر اليوم ، ألهذا جمعت الناس؟! وتفرقوا عنه يتشاورون في أمره.
نعم ، إن القبائل عارضته وكذبته لا لنفسه ، بل لما جاءهم به من أفكار وآراء عن الكون والحياة ، والتي لم يكن لهم بها عهد من قبل ، فصار شأنه شأن باقي المرسلين المكذبين من قبل أقوامهم ، فكان مثل قومه كمثل قوم نوح وعاد وثمود ولوط وأصحاب الرس ، إذ قال تعالى : (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط) (١) ، ولهذا لم نر ضمن ما رماه به صلىاللهعليهوآلهوسلم قومه من تهم ، كلمة (كذاب) أو (خائن) أو (ظالم) أو ... بخلاف رميهم إياه ب : (ساحر) ـ لعدم دركهم كنه الإعجاز ـ و (مجنون) لما كانوا يرون عليه من ثقل الوحي ، وفي هذا غاية الوضوح في أن العرب كانت تعرف صدق وأمانة ووفاء وحكمة محمد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل الإسلام.
ولا يخفى عليك أن المراد من حديث محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل البعثة هو المعنى اللغوي للحديث ، لا المعنى الاصطلاحي ، إذ أن العرب كانت تعلم قيمة كلام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم واتصافه بالحكمة والسداد قبل أن يبعث نبيا ، ولم تكن تعرف المعنى الاصطلاحي الذي حدث من بعد عند المسلمين ، والذي يحمل في كنفه الحجية الشرعية والدليل القطعي.
* * *
__________________
(١) سورة الحج ٢٢ : ٤٢ و ٤٣.