(وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) (٩)
____________________________________
فيقولون ما يقولون وقرىء يوحى إليهم بالياء على صيغة المبنى للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بتعين الفاعل وقوله تعالى (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكفرة* لتبكيتهم واستنزالهم عن رتبة الاستبعاد والنكير إثر تحقيق الحق على طريقة الخطاب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم لأنه الحقيق بالخطاب فى أمثال تلك الحقائق الأنيقة وأما الوقوف عليها بالاستخبار من الغير فهو من وظائف العوام والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه أى إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أيها الجهلة أهل الكتاب الواقفين على أحوال الرسل السالفة عليهم الصلوات لنزول شبهتكم أمروا بذلك لأن إخبار الجم الغفير يوجب العلم لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين فى عداوته عليهالسلام ويشاورونهم فى أمره عليهالسلام ففيه من الدلالة على كمال وضوح الأمر وقوة شأن النبى صلىاللهعليهوسلم ما لا يخفى (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً) بيان لكون الرسل عليهمالسلام أسوة لسائر أفراد الجنس فى أحكام الطبيعة البشرية إثر بيان كونهم أسوة لهم فى نفس البشرية والجسد جسم الإنسان والجن والملائكة ونصبه إما على أنه مفعول ثان للجعل لكن لا بمعنى جعله جسدا بعد أن لم يكن كذلك كما هو المشهور من معنى التصيير بل بمعنى جعله كذلك ابتداء على طريقة قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل كما مر فى قوله تعالى (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) وإما حال من الضمير والجعل إبداعى وإفراده لإرادة الجنس المنتظم للكثير أيضا وقيل بتقدير المضاف أى ذوى جسد وقوله تعالى (لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ) صفة له أى وما جعلناهم* جسدا مستغنيا عن الأكل والشرب بل محتاجا إلى ذلك لتحصيل بدل ما يتحلل منه (وَما كانُوا خالِدِينَ) * لأن مآل التحلل هو الفناء لا محالة وفى إيثار ما كانوا على ما جعلناهم تنبيه على أن عدم الخلود مقتضى جبلتهم التى أشير إليها بقوله تعالى (وَما جَعَلْناهُمْ) الخ لا بالجعل المستأنف والمراد بالخلود إما المكث المديد كما هو شأن الملائكة أو الأبدية وهم معتقدون أنهم لا يموتون والمعنى جعلناهم أجسادا متغذية صائرة إلى الموت بالآخرة على حسب آجالهم لا ملائكة ولا أجسادا مستغنية عن الأغذية مصونة عن التحلل كالملائكة فلم يكن لها خلود كخلودهم فالجملة مقررة لما قيلها من كون الرسل السالفة عليهمالسلام بشرا لا ملكا مع ما فى ذلك من الرد على قولهم (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) وقوله تعالى (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) عطف على ما يفهم من حكاية وحيه تعالى إليهم على الاستمرار التجددى كأنه قيل أوحينا إليهم ما أوحينا ثم صدقناهم فى الوعد الذى وعدناهم فى تضاعيف الوحى بإهلاك أعدائهم (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ) من المؤمنين وغيرهم ممن تستدعى الحكمة إبقاءه كمن سيؤمن هو أو بعض فروعه بالآخرة وهو السر فى حماية العرب من عذاب الاستئصال (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) أى المجاوزين للحدود فى الكفر والمعاصى.