بصائرنا ، حيث ظهر لديها أمرك ، وغلب عليها قهرك ، فلا إلٰه إلّا أنت ، خلقتنا من تراب ، ثمّ أخرجتنا من الأصلاب نطفة ، ثمّ علقة ، ثمّ مضغة ، ثمّ عظاماً ، ثمّ كسوت العظام لحماً ، ثمّ أنشأتنا خلقاً آخر قد انطوىٰ فيه العالم الأكبر . .
فسبحانك سبحانك ما أسطع برهانك ، تحبّبت إلينا ، فدللتنا عليك بآياتك ، وأنت الغني الحميد ، وتفضّلت علينا ، فدعوتنا إليك ببيّناتك ، ونحن الفقراء العبيد ، ولولا أنت لم ندرِ ما أنت .
فلك الحمد إقراراً لك بالربوبية ، والحمدُ فضلُك ، ولك الشكرُ بخوعاً منّا بالعبودية ، والشكرُ طَوْلُك ، لا إلٰه إلّا أنت ربّ العرش العظيم .
هذا كلّه من مرامي الآية الكريمة ، وإنّما جاءت علىٰ سبيل التمثيل والتصوير ، تقريباً للأذهان إلىٰ الإيمان ، وتفنّناً في البيان والبرهان ، وذلك ممّا تعلو به البلاغة فتبلغ حدّ الإعجاز .
ألا ترىٰ كيف جعل الله نفسه في هذه الآية بمنزلة المُشهِد لهم علىٰ أنفسهم ، وجعلهم بسبب مشاهدتهم تلك الآيات البيّنات وظهورها في أنفسهم وفي خلق السماوات والأرض بمنزلة المعترف الشاهد ، وإن لم يكن هناك شهادة ولا إشهاد ؟ !
وباب التمثيل واسع في كلام العرب ، ولا سيّما في الكتاب والسُنّة ، قال الله تعالىٰ : ( مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ) (١) . .
ضرورة أنّهم لم يشهدوا علىٰ أنفسهم بألسنتهم ، وإنّما شهدوا بألسنة
__________________
(١) سورة التوبة ٩ : ١٧ .