ثم جاء عصر المأمون ـ فارتفع شأن المعتزلة ، فالمأمون قد تتلمذ على بعض كبرائهم كيحيى بن المبارك ـ وكان لثمامة بن أشرس مكانة عظيمة لديه (١) فتشرّب آراءهم وشب على مبادئهم ، ويقال أنّ ثمامة هو الذى دعاه إلى الاعتزال (٢) وكان المأمون متعطشا إلى العلم والفلسفة مشغوفا بالآداب محبا للجدل. ووجد فى المعتزلة بغيته ، ومن ثمّ طغى المعتزلة وظهر جبروتهم ، وفى عهده حدثت محنة خلق القرآن ، وعلى يد القاضى المعتزلى أحمد بن أبى دؤاد الإيادى (٣).
وفى عهد المعتصم استمرت المحنة ، واستمر هو فى تقريب المعتزلة عملا بوصية أخيه وأصبح لأبى دؤاد الكلمة العليا والسلطة النافذة فى الدّولة (٤) ولما قضى المعتصم وخلفه الواثق ، كان الواثق شديد الاعتزال فقام بالمحنة أشدّ قيام (٥) ، وكأن عصور ازدهار المعتزلة قد انقضت أو كادت ـ حين مات الواثق وجاء المتوكل ـ فلم يجدوا فيه مأمونا ولا معتصما ولا واثقا ، بل كان سنّيا شافعيّا (٦).
هذا هو جانب المعتزلة المتصل بالسياسة ، وأعتقد أنه أهم الجوانب المؤثّرة فى حياتهم ، إذ حين ترضى عنهم الخلافة تزدهر حياتهم ، وحين ينأى عنهم الخليفة تخفت قضاياهم.
وهناك جانب عقيدتهم ويحسن أن نعرضها أولا ثم نستعرض تطورها على ضوء الأحداث الفكرية الإسلامية.
وعقيدتهم يجملها «الخياط» ، أحد زعماء الاعتزال فى القرن الثالث الهجرى بقوله «وليس يستحق أحد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالأصول الخمسة :
__________________
(١) ابن قيم الجوزية ـ الصواعق المرسلة ـ ١ / ١٣١.
(٢) البغدادى ـ الفرق بين الفرق ـ ١٠٣.
(٣) انظر فى أخبار المحنة ـ الطبرى ـ تاريخ الأمم ـ ١٠ / ٣٨٤ الى ٢٩٢ ، واليعقوبى ٢ / ٥٧١ ، البيهقى ـ مناقب أحمد ٣١٥ و ٤٠١ ، والذهبى ـ دول الإسلام ١ / ١٠٢ ط حيدرآباد ١٣٦٤ ه الثانية.
(٤) ابن خلكان ـ وفيات الأعيان ـ ١ / ٣٢ ط القاهرة ١٤٨ م تحقيق محمد محيى الدين عبد الحميد.
(٥) ابن العماد الحنبلى ـ شذرات الذهب ـ ٢ / ٧٥ و ٢٦ القاهرة ١٣٥٠ ه.
(٦) ابن الأثير ـ الكامل ـ ٧ / ٨ ط الأزهرية. القاهرة ١٣٠١.