فشل العرب فى التحدى لأن ألفاظ القرآن كانت «تحدث صدى ويتردد صداها فى العقل وتفتح منظورات طويلة للبصيرة وتخلق فى الرّوح سموا يحلق بها بمنأى عن عالم المادة وينوّر جنباتها بفيض فجائى من الشّعاع» (١) هذا الفيض الذى حدثنا عنه هاملتون جب ، هو الذى عبر عنه الوليد بن المغيرة بأنه (سِحْرٌ يُؤْثَرُ) (٢) وبأن الرسول الكريم يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته (٣).
ولم يستطع هؤلاء المعاندون أن يقاموا إعجابهم بالقرآن ، فتشوقت آذانهم استماعه ولو خلسة ، فخرج أبو سيفان وأبو جهل والأخنس بن شريق ، ليلة ، ليستمعوا من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهو يصلى من الليل فى بيته ، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه ، وكلّ لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض لا تعودوا. فلو رآكم بعض سفهائكم لا وقعتم فى نفسه شيئا ، ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه. فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض ما قالوا أول مرة ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض ، لا نبرح حتى نتعاهد ألّا نعود ، ثم تعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا (٤) ، ولو لم يتعاهدوا لعادوا ... ، ثم تلاوموا.
وفى مطالع القرن الثانى الهجرى ـ عند ما بدأت الأفكار الجديدة تتسلل إلى العقول ، وبدأ الإسلام ينشر لواءه على البلدان المفتوحة ، أقبل المغلوبون ـ الحاقدون منهم ـ على الدين الجديد يدرسونه وينظرون فيه بعقولهم القديمة ونفوسهم السابقة ، وفى ضوء من تراثهم الدينى والفلسفى ، فاعترضوا كتاب الله بالطعن ، ولغوا فيه وهجروا واتّبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ،
__________________
(١) هاملتون جب ـ دراسات فى حصارة الاسلام ـ ٢٥٦.
(٢) المدثر آية ٢٤ ـ (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أى : هذا سحر يروى ويتعلّم ويؤخذ عن أصحابه.
(٣) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ ١ / ٢٨٩ ط السقا ١٩٣٦ م.
(٤) ابن هشام ـ السيرة النبوية ـ ١ / ٣٣٧.