فإنّ الله جعلَ محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) علماً للساعة ومبشّراً بالجنّة ، ومُنذِراً بالعقوبة. خرج من الدنيا خميصاً ، وورد الآخرة سليماً ، لم يضع حجراً على حجر ، حتّى مضى لسبيله ، وأجاب داعي ربّه ، فما أعظم منّةَ الله عندنا حين أنعم علينا به سلفاً نتّبعه ، وقائداً نطأُ عَقِبَه ...
وإن شِئْتَ ثنَّيْتُ بموسى كليم الله (عليه السلام) ; حيث يقول : (ربّ إنّي لِما أنْزَلْتَ إليّ من خير فقيرٌ) (١) ، والله! ما سأله إلاّ خُبزاً يأكُلُهُ ، لأنّه كان يأكلُ بقلة الأرض ، ولقد كانت خُضرةُ البقلِ تُرى من شَفيفِ صِفاق بطنهِ ; لِهُزَالهِ وتَشَـذُّبِ لحـمهِ.
وإن شِئتَ ثَلَّثْتُ بداودَ (عليه السلام) ، صاحبِ المزامير وقارئ أهل الجنّةِ ; فلقد كان يعملُ سَفائِفَ الخوصِ بيدِه ، ويقول لجلسائِه : أيُّكم يكفيني بيعَها؟ ويأكلُ قُرْصَ الشـعير من ثمنها.
وإن شئتَ قلتُ في عيسى بن مريم (عليه السلام) ; فلقد كان يَتَوسّدُ الحجَر ، ويلبس الخَشِن ، ويأكل الجَشِبَ ، وكان إدامه الجوع ، وسراجُه بالليلِ القمرَ ، وظلالُه في الشتاءِ مشارِقَ الأرضِ ومغاربَها ، وفاكهتُه ورَيحانهُ ما تُنبِتُ الأرضُ للبهائمِ ، ولم تكن له زوجةٌ تَفْتِنُه ، ولا ولد يَحزُنُه ، ولا مال يَلْفُته ، ولا طَمَعٌ يُذِلُّهُ ، دابَّتُهُ رِجْلاه ، وخادِمُهُ يداه» (٢).
____________
(١) سورة القصص ٢٨ : ٢٤.
(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٩ / ٢٢٩ ـ ٢٣٣ ..
خاصّـته : أي مع خصوصيته وتفضّله عند ربه.
زُويت عنه : قُبضَت وأُبعِدت.
عظيم زُلفته : منزلته العليا من القرب إلى الله.
عَلَماً : العلامة ; أي أنّ بعثته دليل على قرب القيامة ; إذ لا نبيّ بعده.