ولا مُهنّئ ، ولا راث ... فهل من غربة أسوأ من تلك؟!
«فهل بلغكم أنّ الدنيا سختْ لهم نَفساً بفِدْيَة ، أو أعانتهم بمعونة ، أو أحسنت لهم صُحبةً؟!
بل أرهقتهم بالفَوادح ، وأوهقتهم بالقوارع ، وضعضعتهم بالنوائب ، وعفّرتهم للمناخر ، ووطِئَتْهم بالمناسم ، وأعانت عليهم ريبَ المنون.
فقد رأيتم تنكُّرَها لمن دان لها ، وآثرها وأخلد إليها ، حين ظَعنوا عنها لفراق الأبد ; وهل زوّدتهم إلاّ السَغَب ، أو أحلّتهم إلاّ الضَنك ، أو نوَّرَتْ لهم إلاّ الظُلمة ، أو أعقَبَتْهم إلاّ النَدامة؟!
أفهذهِ تؤثِرون ، أم إليها تطمئنّون ، أم عليها تحرصون؟!
فبئست الدار لمن لم يتَّهِمْها ، ولم يكن فيها على وجَل منها!
فاعلموا ـ وأنتم تعلمون ـ بأنّكم تاركوها ، وظاعنون عنها ، واتّعِظوا فيها بالّذين قالوا : (مَن أشـدُّ مِنّا قوّةً) (١) ; حُمِلوا إلى قبورهم فلا يُدعَوْنَ ركباناً ، وأُنزِلوا الأجـداثَ فلا يُدْعَوْنَ ضيفاناً ، وجُعِلَ لهم من الصَفيحِ أجْنانٌ ، ومن التُراب أكفانٌ ، ومن الرُفاتِ جيرانٌ ; فهم جِيرَة لا يجيبون داعياً ، ولا يمنعون ضيماً ، ولا يبالون مَنْدَبةً ...
جميعٌ وهم آحاد ، وجيرة وهم أبعادٌ ، متدانون لا يتزاورون ، وقريبون لا يتقاربون ، حلماءُ قد ذهبت أضغانُهم ، وجهلاءُ قد ماتت أحقادهم ...
استُبْدِلوا بظهر الأرض بطناً ، وبالسَـعةِ ضيقاً ، حفاةً عراةً ، وقد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة ، والدار الباقية ...» (٢).
____________
(١) سورة فُصِّلَت ٤١ : ١٥.
(٢) شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٧ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨ ..