والمتنبي في هذا ، لا يقول ما لا يفعل ، كما هو الشأن الغالب في الشعراء الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم : (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) .. بل إنه ليأخذ نفسه بالصدق قولا وعملا ، وإنه ليأبى ـ مثلا ـ أن يغيّر لون شعره ، حين نسخ الشيب سواده .. فيقول :
ومن هوى الصّدق في قولى وعادته |
|
رغبت عن شعر في الرأس مكذوب |
وقل مثل هذا ، فى «أبى العلاء المعرّى» الذي وقف أمّة وحده من الناس ، ومن الدهر ، موقف التحدّى ، قولا ، وعملا ، فأعلنها حربا مشبوبة الأوار ، على كل ما لم يقبله عقله ، أو تستسغه نفسه ، من آراء ومعتقدات ، وعادات ، حتى إذا وجد الحياة كلها حربا عليه ، انسحب إلى بيته ، أو محبسه ، وأغلق عليه بابه ، وأخذ يرمى الناس والحياة برجوم وصواعق ، لا تزال منطلقة إلى اليوم ، تدور في كل مدار ، وتصدم أو تصطدم بكل ما يعوقها ، أو يعترض طريقها.
نقول هذا ، لنصحح هذا الخطأ الذي وقع فيه كثير من الدارسين للأدب العربي ، الذين نسبوا إلى الدعوة الإسلامية ، أنها أصابت الشعر العربي في الصميم من حياته ، وأنها دمغت الشعراء بهذا الوصف الذي يخرجهم من دائرة الإسلام ، وينأى بهم بعيدا عن المثل الفاضلة ، التي يتمثلها الإسلام في أهله.! أليس القرآن الكريم يقول في الشعراء : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ؟) فأى مسلم حريص على سلامة دينه يرضى لنفسه أن يكون من زمرة الشعراء؟ وعلى هذا فقد حبس كثير من المسلمين في صدر الإسلام ، ملكة الشعر التي كانت تغرد في صدورهم ، ومن كان منهم شاعرا في الجاهلية ، أمسك عن قول الشعر جملة في الإسلام ،