وأهلها أهل الخير والصلاح في الدين والعلم والسماحة ، فإن الناس في أكثر ما وراء النهر كأنّهم في دار
واحدة ، وما ينزل أحد بأحد إلّا كأنّه نزل بدار نفسه من غريب وبلدي. وهمّة كلّ امرىء منهم على الجود والسماح فيما ملكت يده من غير سابقة معرفة أو توقع مكافأة.
حكى الاصطخري انّه نزل منزلا بالصغد ، فرأى دارا ضربت الأوتاد على بابها ، فقالوا : إن ذلك الباب لم يغلق منذ زيادة على مائة سنة ، ولم يمنع من دخوله واصل ليلا ولا نهارا! والغالب عليهم بناء الرباطات وعمارة الطرق ، والوقف على سبيل الجهاد وأهل العلم ، وليس بها قرية ولا منهل ولا مفازة إلّا وبها من الرباطات ما يفضل عن نزول من طرقه. وقال : بلغني أن بما وراء النهر أكثر من عشرة آلاف رباط ، في أكثرها إذا نزل الناس به طعام لهم وعلف لدوابّهم إن احتاجوا.
وجميع ما وراء النهر ثغر من حدود خوارزم إلى اسبيجاب ، وهناك الترك الغزّية من اسبيجاب إلى فرغانة الترك الخلخية ، ولم يزل ما وراء النهر على هذه الصفة إلى أن ملكها خوارزم شاه محمّد بن تكش سنة ستمائة ، وطرد الخطاة عنها وقتل ملوك ما وراء النهر المعروفين بالخانية ، وكان في كلّ قطر ملك يحفظ جانبه ، فلمّا استولى على جميع النواحي عجز عن ضبطها ، فسلّط عليها عساكره حتى نهبوها وأجلى الناس عنها ، فبقيت تلك الديار التي وصفت بالجنان لحسنها خاوية على عروشها ، ومياهها مندفقة معطلة ، وقد ورد عقيب ذلك عساكر التتر في سنة سبع عشرة وستمائة وخرّبوا بقاياها. والآن بقي بعض ما كان عليها. فسبحان من لا يعتريه التغيّر والزوال ، وكلّ شيء سواه يتغيّر من حال إلى حال!
مدينة النّحاس
ويقال لها أيضا مدينة الصفر. لها قصّة عجيبة مخالفة للعادة جدّا ، ولكني رأيت جماعة كتبوها في كتب معدودة كتبتها أيضا ومع ذلك فإنّها مدينة