المقدمة الثانية
في خواصّ البلاد
وفيها فصلان : الفصل الأوّل في تأثير البلاد في سكّانها ؛ قالت الحكماء : إن الأرض شرق وغرب وجنوب وشمال ، فما تناهى في التشريق وتحجّ منه نور المطلع فهو مكروه لفرط حرارته وشدّة إحراقه ، فإن الحيوان يحترق بها ، والنبات لا ينبت ، وما تناهى في التغريب أيضا مكروه لموازاته التشريق في المعنى الذي ذكرناه ، وما تناهى في الشمال أيضا مكروه لما فيه من البرد الشديد الذي لا يعيش الحيوان معه ، وما تناهى في الجنوب أيضا كذلك لفرط الحرارة ، فإنّها أرض محترقة لدوام مسامتة الشمس إيّاها. فالذي يصلح للسكنى من الأرض قدر يسير هو أوساط الإقليم الثالث والرابع والخامس ، وما سوى ذلك فأهلها معذّبون ، والعذاب عادة لهم ، وقالوا أيضا : المساكن الحارّة موسّعة للمسام ، مرخية للقوى ، مضعفة للحرارة العزيزيّة ، محلّلة للروح ، فتكون أبدان سكّانها متخلخلة ضعيفة ، وقلوبهم خائفة ، وقواهم ضعيفة لضعف هضمهم.
وأمّا المساكن الباردة فإنّها مصلبّة للبدن مسددة للمسام مقوية للحرارة العزيزيّة ، فتكون أبدان سكّانها صلبة ، وفيهم الشجاعة وجودة القوى والهضم الجيّد. فإن استيلاء البرد على ظاهر أبدانهم يوجب احتقان الحرارة العزيزيّة في باطنهم.
وأمّا المساكن الرطبة فلا يسخّن هواؤهم شديدا ولا يبرد شتاؤهم قويّا ، وسكّانها موصوفون بالسحنة الجيّدة ، ولين الجلود وسرعة قبول الكيفيّات والاسترخاء في الرياضات وكلال القوى.