فأوقعهم ، من هذه الناحية ، بالعجز عن تعاطي محاكاته بأن سلبهم ما فيهم من قدرة علميّة ونفسيّة وبيانيّة على هذه المحاكاة ، كلّما قصدوا إليها وهمّوا بها ، فانصرفوا عن محاولة الإتيان بمثل القرآن ـ وهو موضوع التحدّي ـ فيما عبّر عنه بالصّرفة .. التي هي ، في هذه الرؤية ، «جهة إعجاز القرآن». أي أنّ إعجاز القرآن هو هذا الذي كان يجده العرب في أنفسهم من العجز العجيب عن مجاراته ، وكأنّهم مسلوبو الحول والقوّة ، فاقدو القدرة ، عاجزون تمام العجز عن التصرّف حياله. وكان هذا كافيا ليؤمنوا أنّ القرآن صادر من مصدر إلهيّ.
إن هذه الرؤية احتاجت من الشريف المرتضى إلى بيان مفصّل فيه من الردّ على المعترضين ومن الدفاع شيء كثير. وبعبارة أخرى : إنّه استطاع أن يجلّي الفكرة من خلال ما عكف عليه في كتابه من ردود ونقض ومن إزالة الإبهام وكشف الغموض. وهو بعمله هذا تمكّن من تقديم وضوح كاف لنظرية الصّرفة لم يسبقه اليه أحد من سابقيه ، ولم يزد عليه أحد من لاحقيه.
* * *
إنّ محاولة الشريف المرتضى التفصيليّة هذه تعدّ محاولة جريئة كانت تخالف التّيار السائد وتعاكس مجراه ، مع أنّه كان يعتقد بمزايا النظم والفصاحة القرآنيّة العالية. وقد ظلّت خطوته هذه تثير التحفّظ إزاءها والصمت حيالها في أقلّ تقدير. ويبدو أنّ نفرا من علماء الإماميّة ممّن تأثّروا بالمرتضى قد مالوا الى الصّرفة في شطر من حياتهم العلميّة ، ثمّ ما لبثوا أن هجروها وابتعدوا عنها ؛ لأنّها ربّما كانت تحمل تعريضا ـ ولو يسيرا وعابرا ـ بإعجاز القرآن الداخليّ القائم على تفرّد مضمونه وتفرّد أسلوبه البيانيّ ، في حين تعني الصّرفة أنّ إعجاز القرآن مصدره إرادة من خارجه هي التي تحوطه بالعناية وتقطع السبيل على المعارضين.