وممّا شاع أيضا نبش القبور ، وأكل الموتى ، فأخبرني تاجر مأمون حين ورد من الإسكندريّة بكثرة ما عاين لها من ذلك ، يعني من أكل بني آدم ، وأنّه عاين خمس أرؤس صغار مطبوخة في قدر. وهذا المقدار كاف ، واعتقد أنّي قد قصّرت.
وأمّا موت الفقراء جوعا فشيء لا يعلمه إلّا الله تعالى ، فالّذي شاهدنا بالقاهرة ومصر وهو أنّ الماشي لا يزال يقع قدمه أو بصره على ميّت ، أو من هو في السّياق ، وكان يرفع من القاهرة كلّ يوم من الميضأة ما بين مائة إلى خمسمائة.
وأمّا مصر فليس لموتاها عدد ، يرمون ولا يوارون ، ثمّ عجزوا عن رميهم ، فبقوا في الأسواق والدّكاكين.
وأمّا الضّواحي والقرى ، فهلك أهلها قاطبة إلّا من شاء الله. والمسافر يمرّ بالقرية فلا يرى فيها نافخ نار ، وتجد البيوت مفتّحة وأهلها موتى. حدّثني بذلك غير واحد.
وقال لي بعضهم إنّه مرّ ببلد ذكرنا أنّ فيها أربعمائة نول للحياكة ، فوجدناها خرابا ، وأنّ الحائك في جورة حياكته ميّت ، وأهله موتى حوله ، فحضرني قوله تعالى : (إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) (١)
قال : ثمّ انتقلنا إلى بلد آخر ، فوجدناه ليس به أنيس ، واحتجنا إلى الإقامة به لأجل الزّراعة ، فاستأجرنا من ينقل الموتى ممّا حولنا إلى النيل ، كلّ عشرة بدرهم. وخبّرت عن صياد بفوهة تنّيس أنّه مرّ به في بعض يوم اربعمائة آدميّ يقذف بهم النّيل إلى البحر. وأمّا أنا فمررت على النّيل ، فمرّ بي في ساعة نحو عشرة موتى.
وأمّا طريق الشّام فصارت منزرعة ببني آدم ، وعادت مأدبة بلحومهم للطّير والسّباع. وكثيرا ما كانت المرأة تتخلّص من صبيتها في الزّحام ،
__________________
(١) سورة يس ، الآية ٢٩.