المعرفة وعشاق الحقيقة أن ينهلوا من رحيقه ، بالمثول فى رحابهم ، واقتطاف الأزاهير من بساتينهم ، فيكتمل المفاد التفسيري بإحراز التعرف إلى الباطن القرآنى ـ بالمفهوم السنّى لا الشيعي للباطن ـ إلى جانب معرفة الظاهر والحد والمطلع ، فتلك روافد العطاء المعرفى للقرآن الكريم ، كما بيّنها الرسول الأعظم صلىاللهعليهوسلم بقوله : «إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا» (١).
فالمراد بالظهر : ما يظهر من معانى التنزيل لأهل العلم بالظاهر. والمراد بالباطن : ما يتضمنه من الأسرار التي اطلع الله تعالى عليها أرباب الحقائق. فالبطن روح الألفاظ ، أي : الكلام المعتلى على المدارك الآلية بجواهر الروح القدسية. والحد : مراد به : أن لكل حرف من القرآن منتهى فيما أراده الله تعالى من معناه. والحد : إما بين الظهر والبطن ، وإما بين البطن والمطلع ، فيرتقى به من البطن إليه عند إدراك الرابطة بين الصفة والاسم ، واستهلاك صفة العبد تحت تجليات صفة المتكلم جل شأنه. والمطّلع ـ بضم الميم وفتح الطاء المشددة واللام ـ : هو مكان الاطلاع من الكلام النفسي إلى الاسم المتكلم ، المشار إليه بقول الصادق : «لقد تجلى الله تعالى فى كتابه لعباده ولكن لا يبصرون» ومن ثمّ فالمطلع : ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام (٢). جعلنا الله تعالى من أهل ذاك المقام ، بجاه سيد الأنام ، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
وهكذا نجد أن السنة النبوية الشريفة ـ بحديث : «إن للقرآن ظهرا وبطنا» ونظائره (٣) ـ تعاضد القرآن العظيم فى تأصيل التفسير الفيضي ، أو الإشارى فى نحو قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٤) وقوله سبحانه : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (٥) ، ففيهما الإشارة الثاقبة إلى التفسير الإشارى. ومن ثمّ روى عن باب مدينة العلم. سيدنا على كرم الله وجهه أنه قال : «لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من فاتحة الكتاب» وقال : «من فهم القرآن فسر به جمل العلم» (٦).
ولتجسّد أصالة التفسير الصوفي الإشارى وحتمية وجوده لتجلية حقائق القرآن المستنبطة منه بفهم أهل الله تعالى : فقد اعتد أساطين علماء التنزيل به ، وضمنوه تفاسيرهم ، ووضعوا له التعريف العلمي بضوابطه التي تخرج عنه ما يلتبس به عند غير ذوى العلم ، مما يعرف بالتفسير الباطني الذي يقصر دلالة النص القرآنى على تأويلات الباطنية من الشيعة المنحرفة ، فهذا لا علاقة له بالتفسير الصوفي على الحقيقة.
من ثمّ عرف التفسير الصوفي الفيضي الإشارى بأنه : تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية ، تظهر لأهل السلوك ، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة (٧).
__________________
(١) أخرجه ابن حبان ، فى صحيحه ، عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضى الله عنه ، وأخرجه عنه الحافظ العراقي فى (المغني عن حمل الأسفار. بتحقيق ما فى الإحياء من الأخبار) بحاشية الإحياء (١ / ٨٨).
(٢) انظر روح المعاني لشيخنا الإمام الآلوسى النقشبندي ، عليه رضوان الله تعالى (١ / ٧).
(٣) من نظائر هذا الحديث الشريف : ما أخرجه الديلمي عن سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه مرفوعا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : (القرآن تحت العرش له ظهر وبطن يحاج العباد).
(٤) سورة (محمد) صلىاللهعليهوسلم : الآية / ٢٤.
(٥) سورة النساء / ٧٨.
(٦) انظر إحياء علوم الدين ، للإمام الغزالي رضى الله عنه ، (١ / ٢٦٠) ط / العثمانية.
(٧) انظر ـ مع الإتقان للإمام السيوطي ٤ / ١٩٨ ـ : التفسير والمفسرون للدكتور محمد حسين الذهبي ٣ / ١٨.