الكاتمين فقال : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) ؛ لا يخفى عليه ما تبدون وما تكتمون ، روى عنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «من كتم شهادة إذا دعى ـ كان كمن شهد بالزّور».
الإشارة : كما أمر الله تعالى بتقييد الديون الدنيوية ، والاعتناء بشأنها ، أمر بتقييد العلوم اللدنية والواردات القدسية والاغتباط بأمرها ، بل هى أولى ؛ لدوام ثمراتها وخلود نتائجها ، فإن الحكمة ترد على القلب من عالم القدس عظيمة كالجبل ، فإن أهملتها ولم تبادر إلى تقييدها ، رجعت كالجمل ، فإن أخرتها رجعت كالطير ، ثم كالبيضة ، ثم تمتحى من القلب ، وفى هذا المعنى قيل :
العلم صيد والكتابة قيده |
|
قيّد صيودك بالحبال الموثقه |
ومن الجهالة أن تصيد حمامة |
|
وتتركها بين الأوانس مطلقه |
فإن لم يحسن الكتابة ، فليملله على من يحسنها ، ولا يبخس منه شيئا ، بل يمليه على ما ورد فى قلبه ، فإن كان ضعيف العبارة ، فليملل عنه من يحسنها بالعدل ، من غير زيادة ولا نقصان فى المعنى ، وليشهد عليها رجال أهل الفن وهم العارفون ، فإن لم يكونوا ، فمن حضر من الفقراء المتمكنين ؛ لئلا يكون فى تلك الحكمة شىء من الخلل ؛ لنقصان صاحبها ، أو : وليشهد على ذلك الوارد عدلين ، وهما الكتاب والسنة ، فإن كان موافقا لهما ، قبل ، وإلا ردّ.
قال الجنيد رضي الله عنه : إن النكتة لتقع فى قلبى فلا أقبلها إلا بشهادة عدلين : الكتاب والسنة. ه. وإن كنتم مستعجلين ، ولم تجدوا كاتبا ، فارتهنوها فى قلوب بعضكم بعضا ، حتى تقيد. ومن كتم الواردات عن شيخه أو إخوانه ، فقد أثم قلبه ؛ لأنه نوع من الخيانة فى طريق التربية. والله تعالى أعلم.
ثم هدّد الحق تعالى عباده ، على مخالفة ما أمرهم به ، فقال :
(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤))
قلت : من قرأ (فيغفر) ؛ بالجزم ، فعلى العطف على الجواب ، ومن قرأ بالرفع فعلى الاستئناف ، أي : فهو يغفر.
يقول الحق جل جلاله : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا وعبيدا ، يتصرف فيهم كيف شاء ؛ يرحم من يشاء بفضله ، ويعذب من يشاء بعدله ، (وَإِنْ تُبْدُوا) أي : تظهروا (ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من السوء والعزم عليه ، (أَوْ تُخْفُوهُ) فى قلوبكم ، (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) يوم القيامة ؛ (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) مغفرته ، (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) تعذيبه ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزه عذاب أحد ولا مغفرته. وعبّر الحق تعالى بالمحاسبة دون المؤاخذة ، فلم يقل : يؤاخذكم به الله ؛ لأن المحاسبة أعم ، فتصدق بتقرير الذنوب دون المؤاخذة بها ، لقوله ـ عليه الصلاة والسلام : «يدنو المؤمن من ربه حتى يضع كنفه عليه ، فيقرره بذنوبه ، فيقول : هل تعرف