قلت : من قرأ : (لا نفرق) بالنون ، فعلى حذف القول ، أي : قالوا : لا نفرق ، ومن قرأ بالياء فيرجع إلى الكل ، أي : لا يفرق كل واحد منهم بين أحد من رسله ، و (بين) : من الظروف النسبية ، لا تقع إلا بين شيئين أو أشياء ، تقول : جلست بين زيد وعمرو ، وبين رجلين ، أو رجال ، ولا تقول بين زيد فقط ، وإنما أضيف هنا إلى أحد لأنه فى معنى الجماعة ، أي : لا نفرق بين آحاد منهم كقوله عليه الصلاة والسلام : «ما أحلّت الغنائم لأحد ، سود الرؤوس ، غيركم». و (غفرانك) : مفعول مطلق ، أي : اغفر لنا غفرانك. أو : نطلب غفرانك ، فيكون مفعولا به.
يقول الحق جل جلاله : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) إيمان تحقيق وشهود ، (وَالْمُؤْمِنُونَ) كل على قدر إيقان ، (كُلٌ) واحد منهم (آمَنَ بِاللهِ) على ما يليق به من شهود وعيان ، أو دليل وبرهان ، وآمن بملائكته وأنهم عباد مكرمون (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ، (وَكُتُبِهِ) وأنها كلام الله ، مشتملة على أمر ونهى ووعد ووعيد وقصص وأخبار ، ما عرف منها ؛ كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، وجب الإيمان به بعينه ، ومالم يعرف وجب الإيمان به فى الجملة ، (وَرُسُلِهِ) وأنهم بشر متصفون بالكمالات ، منزهون عن النقائص ، كما يليق بحالهم ، حال كون الرسول والمؤمنون قائلين (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) أو : (لا يفرق) كل منهم بين أحد من رسله ؛ بأن يصدقوا بالبعض ، دون البعض كما فرقت اليهود والنصارى ، (وَقالُوا) أي المؤمنين (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي : سمعنا قولك وأطعنا أمرك ، نطلب (غُفْرانَكَ) يا ربنا (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) بالبعث والنشور ، وهذا إقرار منهم بالبعث الذي هو من تمام أركان الإيمان.
فلمّا تحقق إيمانهم ، وتيقن إذعانهم ، خفّف الله عنهم بقوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي : إلا ما فى طاقتها وتسعه قدرتها. وهذا يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال ولا يدل على امتناعه. أما المحال العادي (١) فجائز التكليف به ، وأما المحال العقلي (٢) فيمتنع ، إذ لا يتصور وقوعه ، وإذا كلف الله عباده بما يطيقونه ، فكل نفس (لَها ما كَسَبَتْ) من الخير فتوفى أجره على التمام ، (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) من الشر ، فترى جزاءه ، إلا أن يعفو ذو الجلال والإكرام.
وعبر فى جانب الخير بالكسب ، وفى جانب الشر بالاكتساب ، تعليما للأدب فى نسبة الخير إلى الله ، والشر إلى العبد. فتأمله.
ثم قالوا فى تمام دعائهم : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) ، أي : لا تؤاخذنا بما أدى بنا إلى نسيان أو خطأ من تفريط أو قلة مبالاة ، وفى الحديث : «إنّ الله رفع عن أمتى الخطأ والنّسيان وما حدثت به نفسها».
__________________
(١) المحال العادي : كرفع إنسان جبلا.
(٢) المحال العقلي : كالجمع بين الضدين.