(وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) من قبله هاديا لمن كلف باتباعها من الأنام ، أو للجميع ، إذا كان شرع من قبلنا شرعا لنا ـ معشر أهل الإسلام ـ ، ثم ختم الوحى بإنزال (الْفُرْقانَ) ، وكلف بالإيمان به الإنس والجان ، فرّق به بين الحق والباطل ، واندفع به ظلمة كل كافر وجاهل ؛ وقدّم ذكره على الكتب ؛ لعظم شرفه ، وختم به آخرا لتأخر نزوله. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لمّا أراد الحق جل جلاله أن يشير إلى وحدة الذات وظهور أنوار الصفات ، قدّم قبل ذلك رموزا وإشارات ، لا يفهمها إلا من غاص فى قاموس بحر الذات ، وغرق فى تيار الصفات ، فيستخرج بفكرته من يواقيت العلوم وغوامض الفهوم ، ما تحار فيه الأذهان ، وتكلّ عنه عبارة اللسان ، فحينئذ يفهم دقائق الرموز وأسرار الإشارات ، ويطلع على أسرار الذات وأنوار الصفات ، ويفهم أسرار الكتب السماوية ، وما احتوت عليه من العلوم اللدنية ، والمواهب الربانية ، ويشرق فى قلبه أنوار الفرقان ، حتى يرتقى إلى تحقيق أهل الشهود والعيان. جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه.
ثم هدد من كفر بالفرقان ، بعد وضوح سواطع البرهان ، فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّـهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّـهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (٤))
قلت : الانتقام والنقمة : عقوبة المجرم. وفعله : نقم ؛ بكسر القاف وفتحها.
يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) المنزلة على نبيه أو على سائر أنبيائه ، أو الآيات الدالة على وحدانيته ، (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) يوم يظهر نفوذ الوعد والوعيد ، فينتقم الله فيه من المجرمين ، ويتعطف على عباده المؤمنين ، فإن (اللهُ عَزِيزٌ) لا يغلبه غالب ، ولا يفوته هارب ، (ذُو انْتِقامٍ) كبير ولطف كثير. لطف الله بنا وبجميع المسلمين. آمين.
الإشارة : ظهور أولياء الله لطف من آيات الله ، فمن كفر بهم حرم بركتهم ، وبقي فى عذاب الحجاب وسوء الحساب ، تظهر عليه النقمة والمحنة ، حين يرفع الله المقربين فى أعلى عليين ، ويكون الغافلون مع عوام المسلمين ، (ذلك يوم التغابن). والله تعالى أعلم.
ولمّا وصف الحق جلّ جلاله نفسه بالوحدانية والحياة والقيومية المقتضية للغنى المطلق ، وصف نفسه أيضا بالعلم المحيط والقدرة النافذة ، فقال :
(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦))