قلت : (منه) : خبر مقدم ، و (آيات) : مبتدأ ، فيوقف على (الكتاب) ، وقيل : (منه) : نعت لكتاب ، وهو بعيد.
قال ابن السبكى : المحكم : المتضح المعنى ، والمتشابه : ما استأثر الله بعلمه ، وقد يطلع عليه بعض أصفيائه. و (هن أم الكتاب) : جملة ، وحق الخبر المطابقة فيقول : أمهات ، وإنما أفرده على تأويل كل واحدة ، أو على أن الكل بمنزلة آية واحدة. والزيغ : الميل عن الحق. و (الراسخون فى العلم) : معطوف على (الله) ، أو مبتدأ ؛ إن فسر المتشابه بما استأثر الله بعلمه ، كمدة بقاء الدنيا ووقت قيام الساعة ، أو بما دل القاطع على أن ظاهره غير مراد. قاله البيضاوي. و (إذ هديتنا) : ظرف مجرور بالإضافة مسبوك بالمصدر ، أي : بعد هدايتك إيانا.
يقول الحق جل جلاله : إن الذي انفرد بالوحدانية والقيومية ، ولا يخفى عليه شىء فى العالم العلوي والسفلى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) المبين ، فمنه ما هو (آياتٌ مُحْكَماتٌ) واضحات المعنى ، لا اشتباه فيها ولا إجمال ، (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي : أصله ، يرد إليها غيرها ، (وَ) منه آيات (أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) أي : محتملات ، لا يتضح مقصودها ؛ لإجمال أو مخالفة ظاهر ؛ إلا بالفحص وجودة الفكر ، ليظهر فضل العلماء النقاد ، ويزداد حرصهم على الاجتهاد فى تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها ، فينال بها ، وبإتعاب القرائح فى استخراج معانيها ، والتوفيق بينها وبين المحكمات ، أعلى الدرجات وأرفع المقامات.
قال فى نوادر الأصول : لمّا تكلم على المتشابه قسّمه على قسمين ؛ منه ما طوى علمه إلّا على الخواص ؛ كعلم فواتح السور ، ومنه ما لم يصل إليه أحد من الرسل فمن دونهم ، وهو سر القدر ؛ لا يستقيم لهم مع العبودية ، ولو كشف لفسدت العبودية ، فطواه عن الرسل والملائكة ؛ لأنهم فى العبودية ، فإذا زالت العبودية احتملوها ؛ أي : أسرار القدر. ه. ولمثل هذا يشير قول سهل : للألوهية سر ـ لو انكشف لبطلت النبوة ، وللنبوة سر ـ لو انكشف لبطل العلم ، وللعلم سر لو انكشف لبطلت الأحكام. ه.
قلت : فتحصّل أن الكتاب العزيز مشتمل على المحكم والمتشابه. وأما قوله تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) فمعناه : أنها حفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ ، وقوله تعالى : (كِتاباً مُتَشابِهاً) معناه : أنه يشبه بعضه بعضا فى صحة المعنى وجزالة اللفظ.
ثم إن الناس فى شأن المتشابه على قسمين : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) : أي : شك ، أو ميل عن الحق ، كالمبتدعة وأشباههم ، (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) ، فيتعلقون بظاهره ، أو بتأويل باطل ، (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أي : طلبا لفتنة الناس عن دينهم : بالتشكيك والتلبيس ، ومناقضة المحكم بالمتشابه ، (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) على ما يشتهون ليوافق بدعتهم.