روى عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ : أن النبي صلىاللهعليهوسلم ـ قرأ هذه الآية فقال : «إذا رأيتم الذين يسألون عن المتشابه منه ، ويجادلون فيه ، فهم الذين عنا الله تعالى ، فاحذروهم ، ولا تجالسوهم».
(وما يعلم تأويله) على الحقيقة (إلا الله) تعالى ، وقد يطلع عليه بعض خواص أوليائه ، وهم (الراسخون) أي : الثابتون فى العلم ، وهم العارفون بالله أهل الفناء والبقاء ، وهم أهل التوحيد الخاص ... فقد أطلعهم تعالى على أسرار غيبه ، فلم يبق عندهم متشابه فى الكتاب ولا فى السنة ، حال كونهم (يقولون آمنا به) ، وصدقنا أنه من كلامه ، (كلّ من عند ربنا) ؛ المحكم والمتشابه ، وقد فهمنا مراده فى القسمين ، وهم أولو الألباب ، ولذلك مدحهم فقال : (وما يذكّر إلا أولوا الألباب) أي : القلوب الصافية من ظلمة الهوى وغبش الحس.
سئل عليه الصلاة والسلام : من الراسخون فى العلم؟ فقال : «من برّ يمينه ، وصدق لسانه ، واستقام قلبه ، وعفّ بطنه وفرجه ، فذلك الراسخ فى العلم». وقال نافع بن يزيد : الراسخون فى العلم : المتواضعون لله ، المتذللون فى طلب مرضات الله ، لا يتعظمون على من فوقهم ، ولا يحقرون من دونهم. ه. وقيل : الراسخ فى العلم : من وجد فيه أربعة أشياء : التقوى بينه وبين الله ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينه وبين نفسه. ه. قلت : ويجمع هذه الأوصاف العارف بالله ، فهو الراسخ فى العلم كما تقدم.
ويقولون أيضا فى تضرعهم إلى الله : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) عن نهج الحق بالميل إلى اتباع الهوى ، (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) إلى طريق الوصول إلى حضرتك ، (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) تجمع قلوبنا بك ، وتضم أرواحنا إلى مشاهدة وحدانيتك ، (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) ؛ تهب للمؤمل فوق ما يؤمل. (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ) الجزاء الذي (لا رَيْبَ فِيهِ) ، فاجمعنا مع المقربين ؛ إنك (لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) ، فأنجز لنا ما وعدتنا فى ذلك اليوم. وخلف الوعد فى حقه تعالى محال. أما الوعد بالخير فلا إشكال ، وأما الوعيد بالشر ، فإن كان فى معيّن فلا يخلفه ، وإن كان فى الجملة فيخلفه بالعفو. والله تعالى أعلم.
وقال فى النوادر أيضا : لمّا ردّ الراسخون فى العلم علم المتشابه إلى عالمه ، حيث قالوا : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) ، خافوا شره النفوس لطلبها ؛ فإنّ العلم لذيذ ، وفتنة تلك اللذة لها عتاب ، ففزعوا إلى ربهم فقالوا : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) ، علموا أن الرحمة تطفئ تلك الفتنة. ولما كان يوم القيامة ينكشف فيه سر القدر حنوا إليه فقالوا : (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ ...) الآية. سكنوا نفوسهم لمجىء ذلك اليوم الذي تبطن فيه الحكمة ، وتظهر فيه القدرة. ه. بالمعنى.
الإشارة : إذا صفت القلوب ، وسكنت فى حضرة علام الغيوب ، تنزلت عليها الواردات الإلهية والعلوم اللدنية ، والمواهب القدسية ، فمنها ما تكون محكمات المبنى ، واضحات المعنى ، ومنها ما تكون مجملة فى حال ورودها ،