وقد تعوذ النبي صلىاللهعليهوسلم من شر فتنتها ، غناها وفقرها. وأكثر القرآن مشتمل على ذمها ، وتحذير الخلق منها ، بل ما من داع يدعو إلى الله تعالى إلا وقد حذر منها ، ورغّب فى الآخرة ، بل هو المقصود بالذات من بيان الشرائع ، وكيف لا ـ وهى عدوة الله ؛ لقطعها طريق الوصلة إليه ، ولذلك لم ينظر إليها منذ خلقها. وعدوة لأوليائه ؛ لأنها تزينت بزينتها حتى تجرعوا مرارة الصبر فى مقاطعتها ، وعدوة لأعدائه ؛ لأنها استدرجتهم بمكرها ، واقتنصتهم بشبكتها ، فوثقوا بها ، فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها. كفانا الله شرها بمنّه وكرمه.
ثم نبه الحق تعالى على ما هو المقصود الأهم لمن له عقل وافر ، فقال :
(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧))
قلت : (للذين) : خبر ، و (جنات) : مبتدأ ، وهو استئناف لبيان الخيرية ، والرضوان فيه لغتان : الضم والكسر ، كالعدوان والطغيان ، و (الذين يقولون) : بدل من (الذين اتقوا) ، أو خبر عن مضمر ، أو منصوب على المدح ، أو بدل من العباد ، و (الصابرين) وما بعده : نعت الموصول.
يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) يا محمد : أأخبركم (بِخَيْرٍ) من الذي ذكرت لكم من الشهوات الفانية واللذات الزائلة ، وهو ما أعد الله للمتقين عند لقاء ربهم ، وهو (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ) تحت قصورها الأنهار ؛ من الماء واللبن والعسل والخمر ، (خالِدِينَ فِيها) ، لا كنعيم الدنيا الفاني ، ولهم فيها (أَزْواجٌ) من الحور العين ، مطهرات من الحيض والنفاس وسائر المستقذرات ، (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) الذي هو (أكبر) النعم.
فانظر : كيف ذكر الحق ـ جل جلاله ـ أدنى النعيم وأوسطه وأعلاه؟ فأدناه : متاع الدنيا الذي زين للناس ، وأوسطه : نعيم الجنان ، وأعلاه : رضى الرحمن. وفى الحديث الصحيح عنه صلىاللهعليهوسلم : «يقول الله تعالى لأهل الجنّة : يا أهل الجنّة ، فيقول أهل الجنّة : لبّيك ربّنا وسعديك ، والخير فى يديك ، فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : ما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين ، فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون : يا ربنا ، وأىّ شىء أفضل من ذلك؟ قال : أحلّ عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم أبدا».