ظهرت البغضاء من أفواههم ، وما تحفى صدورهم أكبر ، فإن كنتم أيها الفقراء تحبون لهم الخير فإنهم بعكس ذلك ، وإن كنتم تقرون شريعتهم فإنهم لا يؤمنون بحقيقتكم ، بل ينكرونها عليكم ، ومنهم من يتصف بالنفاق ، إذا لقى أهل الخصوصية أظهر التصديق والمحبة ، وإذا خلا مع العامة أظهر العداوة والحنق ، وإن تمسسكم أيها الفقراء حسنة ، كعز وفتح وشهود ومعرفة تسؤهم ، وإن تصبكم سيئة ؛ كمحنة أو بلية ، يفرحوا بها ، وإن تصبروا على أذاهم وجفوتهم ، وتتقوا شهود السوي فيهم ، لا يضركم كيدهم شيئا ؛ (إن الله بما يعملون محيط).
ولما فرغ الحق تعالى من معاتبة أهل الكتابين ، شرع فى معاتبة بعض المسلمين ؛ لما وقع لهم فى غزوة أحد من الفشل ، فقال :
(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢))
يقول الحق جل جلاله : واذكر يا محمد حين (غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) من منزل عائشة ، الذي نزلت فيه بأحد ، حين خرجت بها ، حال كونك (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) أي : تهيئ لهم ، (مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) أي : مواقف وأماكن يقفون فيها للحرب (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم ، (عَلِيمٌ) بإخلاصكم.
قال الواقدي : خرج النبي صلىاللهعليهوسلم من منزل عائشة ـ رضي الله عنها ـ ماشيا على رجليه إلى أحد ، فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح (١). إن رأى صدرا خارجا ، قال : تأخر. وذلك أن المشركين نزلوا بأحد ، يوم الأربعاء ، فلما سمع النبي صلىاللهعليهوسلم بنزولهم استشار أصحابه ، ودعا عبد الله بن أبى بن سلول ـ ولم يدعه قط قبلها ـ فاستشاره ، فقال عبد الله بن أبى وأكثر الأنصار : يا رسول الله ؛ أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم ، فو الله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه ، فكيف وأنت فينا! فدعهم يا رسول الله ، فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال فى وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة ، وإن رجعوا رجعوا خاسئين. فأعجب النبي صلىاللهعليهوسلم هذا الرأى ، وقال بعض أصحابه : يا رسول الله ؛ اخرج بنا إلى هذه الأكلب (٢) ؛ لا يرون أنا جبنّا عنهم وضعفنا. فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إنّى رأيت فى منامى بقرا تذبح ، فأولتها ناسا من أصحابى يقتلون ، ورأيت فى ذباب سيفى ثلما (٣) ، فأولتها هزيمة ، ورأيت أنى أدخل يدى فى درع حصينة ، فأولتها المدينة ، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم فافعلوا». فقال رجال ممن فاتهم بدر ، وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد : اخرج بنا
__________________
(١) القدح ـ بالكسر : السهم قبل أن ينصل ويراش.
(٢) فى نسخة : (الكلاب) ، وكلاهما صحيح ؛ فالكلب يجمع على كلاب وأكلب.
(٣) الثلم : الكسر.