ثم عطف على قوله : (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ) قوله : (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) إن أسلموا (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) إن لم يسلموا ، (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) قد استحقوا العذاب بظلمهم ، والأمور كلها بيد الله ، (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا وعبيدا ، (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) غفرانه ، (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) تعذيبه ، ولا يجب عليه شىء ، (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لعباده ، فلا تبادر بالدعاء عليهم.
الإشارة : وما جعل الله التأييد الذي ينزله على أهل التجريد ، حين يقابلهم بالابتلاء والتشديد ، إذا أراد أن يوصلهم لصفاء التوحيد ، إلا بشارة لفتحهم ، ولتطمئن بمعرفته قلوبهم ، فإن الامتكان على قدر الامتحان ، وكل محنة تزيد مكنة ، وهذه سنة الله فى أوليائه ؛ يسلط عليهم الخلق فى بدايتهم ، ويشدد عليهم البلاء ، حتى إذا طهروا من البقايا ، وكملت فيهم المزايا ، كف عنهم الأذى ، وانقلب الجلال جمالا ، وذلك اعتناء بهم ، ونصرا لهم على أنفسهم ، فإن النصر كله (مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). وذلك ليقطع عنهم طرفا من الشواغل والعلائق ، التي تقبضهم عن العروج إلى سماء الحقائق ، فإن الروح إذا رقدت فى ظل العز والجاه صعب خروجها من هذا العالم ، فإذا ضيق عليها ، وعكس مرادها ، رحلت إلى عالم الملكوت ، والأمر كله بيد الله. ليس لك أيها الفقير من الأمر شىء ، إنما أنت مأمور بتحريك الأسباب (١) والله يفتح الباب. وليس لك أيها الشيخ من الأمر شىء ، إنما أنت مذكر ، وعلى الله البلاغ ، فلا تأس على ما فاتك ، ولا تفرح بما آتاك ، فملكوت السموات والأرض بيد الله ، (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
قال القشيري : جرّده ـ أي : نبيه صلىاللهعليهوسلم لما به عرفه عن كلّ غير وسبب ، حيث أخبره أنه ليس له من الأمر شىء ، ثم قال : ويقال : أقامه فى وقت مقاما ؛ رمى بقبضة من التراب ، فأصابت جميع الوجوه ، وقال : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) وقال فى وقت آخر : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ). ه.
يشير إلى أنهما مقامان : نيابة عن الله بالله ، ونيابة الله عن عبده ، والأول بقاء ، والثاني فناء ، قاله المحشى. قلت : الأول فى مقام البسط ، والثاني فى مقام القبض ، فقد قالوا : إذا بسط فلا فاقة ، وإذا قبض فلا طاقة. والله تعالى أعلم.
ولمّا كان النصر فى الجهاد لا يكون إلا بأكل الحلال وطاعة الكبير المتعال ، قدّم ذكر ذلك قبل الأمر بالقتال فى قضية أحد ، فقال :
__________________
(١) فى «أ» السبب.