فإن قلت : ما ذكر فى الأنفال إلا ألفا ، وهنا خمسة آلاف. فالجواب : أن الله تعالى أمدهم أولا بألف ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف. قال ابن عباس : لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر ، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال معنا ، ولا يقاتلون. ه.
الإشارة : كل من توجّه لجهاد نفسه فى الله ، واشتغل بذكر مولاه ، أمده الله فى الباطن بالأنوار والأسرار ، وفى الظاهر بالملائكة الأبرار ، وقد شوهد ذلك فى الفقراء أصحابنا ، إذا كانوا ثلاثة رآهم العامة ثلاثين ، وإذا كانوا ثلاثين رأوهم ثلاثمائة ، وقد كنا فى سفرة سبعين ، فرأونا سبعمائة على ما أخبرونا به ، (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ).
ثم ذكر الحق تعالى حكمة إمداده لهم ، فقال :
(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩))
قلت : (ليس لك من الأمر شىء) : جملة معترضة بين قوله : (أو يكبتهم) وقوله : (أو يتوب عليهم) ، أو تكون (أو) بمعنى (إلا) ، أي : ليس لك من الأمر شىء ، إلا أن يتوب عليهم فتبشرهم ، أو يعذبهم فتتشفى فيهم. قاله البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله : وما جعل الله ذلك الإمداد إلا بشارة لكم بالنصر ، (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) فتثبتوا للقتال ، (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) فهو قادر على أن ينصركم بلا واسطة ، لكن أراد أن يثيبكم وينسب المزية إليكم ، حيث قتلهم على أيديكم ، فإن الله عزيز لا يغلب ، حكيم فيما دبر وأبرم ، وإنما نصركم يوم بدر (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بقتل بعض وأسر آخرين ، فإنه قتل يومئذ سبعون ، وأسر سبعون ، (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) أي : يحزنهم ويغيظهم ، والكبت : شدة الغيظ ، (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) مما أملوا.
ولما جرح ـ عليه الصلاة والسلام ـ فى وجهه ، وشجّ على قرن حاجبه ، وكسرت رباعيته ، همّ بالدعاء على الكفار ، بل دعا عليهم ، فأنزل الله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ؛ إنما أنت رسول إليهم ، مأمور بإنذارهم وجهادهم ، وأمرهم بيد مالكهم ، إن شاء هداهم وإن شاء عذبهم. وإنما نهاه عن الدعاء عليهم ؛ لعلمه بأن منهم من يسلم ويجاهد فى سبيل الله ، وقد كان كذلك ؛ فجلّهم أسلموا وجاهدوا ، منهم خالد بن الوليد ـ سيف الله فى أرضه.