فأنزل فيما قال المنافقون : (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ) بارتداده (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) وإنما يضر نفسه ، (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) على نعمة الإسلام بالثبات عليه ، كأنس وأضرابه ، (وَما كانَ) ينبغى (لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : بإرادته ومشيئته ، أو بإذنه لملك فى قبض روحه ، والمعنى : أنّ لكل نفس أجلا مسمى فى علمه تعالى وقضائه ، لا تستأخر عنه ساعة ولا تستقدم ، بالتأخر عن القتال ولا بالإقدام عليه ، وفيه تشجيعهم على القتال ووعد للرسول بحفظه وتأخر أجله ؛ فإن الله تعالى كتب أجل الموت (كِتاباً مُؤَجَّلاً) ؛ مؤقتا لا يتقدم ولا يتأخر.
ونزل فى الرماة الذين خالفوا المركز للغنيمة : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) الجزاء الجليل ، (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) الذين شكروا نعم الله ، فلم يشغلهم شىء عن الجهاد فى سبيل الله ، بل كان همهم رضى الله ورسوله دون شىء سواه.
الإشارة : ينبغى للمريد أن يستغنى بالله ، فلا يركن إلى شىء سواه ، وتكون بصيرته نافذة حتى يغيب عن الواسطة بشهود الموسوط ، فإن مات شيخه لم ينقلب على عقبيه ، فإن تمكن من الشهود فقد استغنى عن كل موجود ، وإن لم يتمكن نظر من يكمله ، فالوقوف مع الوسائط وقوف مع النعم دون شهود المنعم ، فلا يكون شاكرا للمنعم حتى لا يحجبه عنه شىء ، ولما مات ـ عليه الصلاة والسلام ـ دهشت الناس ، وتحيرت لوقوفهم مع شهود النعمة ، إلّا الصدّيق ؛ كان نفذ من شهود النعمة إلى شهود المنعم ، فخطب حينئذ على الناس ، وقال : (من كان يعبد محمّدا فإن محمّدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حى لا يموت). ثم قرأ : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ...) إلى قوله : (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) ، وهم الذين نفذوا إلى شهود المنعم ، ولم يقفوا مع النعمة.
ودخل بعض العارفين على بعض الفقراء فوجده يبكى ، فقال له : ما يبكيك؟ قال : مات أستاذى ، فقال له العارف : ولم جعلت أستاذك يموت؟ وهلا جعلته حيا لا يموت. فنبهه على نفاذ بصيرته إلى شهود المنعم دون الوقوف مع النعمة ، فالشيخ الحقيقي هو الذي يغنى صاحبه عنه وعن غيره ، بالدلالة على ربه.
ثم صبّرهم بما وقع لغيرهم قبلهم فقال :
(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨))