الإشارة : وكم من المريدين والأتباع مات شيخهم أو قتل ، فثبتوا على طريقهم ، فما فشلوا ولا ضعفوا ، ولا خضعوا لمن يقطعهم عن ربهم ، بل صبروا على السير إلى ربهم ، أو الترقي فى المقامات ، ومن لم يرشد منهم طلب من يكمل له ، (والله يحب الصابرين) ، فإذا أحبهم كان سمعهم وبصرهم ، كما فى الحديث. وما كان حالهم عند موت شيخهم إلا الالتجاء إلى ربهم ، والاستغفار مما بقي من مساوئهم ، وطلب الثبات فى مواطن حرب أنفسهم ، فأعطاهم الله عز الدنيا والآخرة ، عز الدنيا بالإيمان والمعرفة ، وعز الآخرة بدوام المشاهدة ، فكانوا أحباب الله ؛ (والله يحب المحسنين).
ثم حذّرهم الله تعالى من الركون إلى عدوهم ، فقال :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠))
يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم المنافقون ، لما قالوا للمسلمين عند الهزيمة : ارجعوا إلى دينكم الأول ، ولو كان نبيا ما قتل ، (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) راجعين عن إيمانكم ، (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) مفتونين عن دينكم ، فتحبط أعمالكم فتخسروا الدنيا والآخرة ، بل اثبتوا على إيمانكم ، فإن الله (مَوْلاكُمْ) سينصركم ويعزكم ، (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) ، وقيل : إن تسكنوا إلى أبى سفيان وأشياعه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينهم. وقيل : عام فى مطاوعة الكفرة والنزول على حكمهم ؛ فإنه يجر إلى موافقتهم على دينهم ، لا سيما إن طالت مدة الاستئمان.
قلت : وهذا هو السبب فى ارتداد من بقي من المسلمين بالأندلس حتى رجعوا نصارى ، هم وأولادهم ، والعياذ بالله من سوء القضاء.
الإشارة : يا أيها المريدون ـ وخصوصا المتجردين ـ إن تطيعوا العامة ، وتركنوا إليهم ، يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بطلب الدنيا وتعاطى أسبابها ، فتزلّ قدم بعد ثبوتها ، وتنحط من الهمة العالية إلى الهمة السفلى ، فإن الطباع تسرق ، والمرء على دين خليله ، بل اثبتوا على التجريد وتحقيق التوحيد ، فإن الله مولاكم (وهو خير الناصرين) ؛ فينصركم ويعزكم ويغنيكم بلا سبب ، كما وعدكم ؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ).
ولّما انصرف أبو سفيان من أحد ، قال : بئس ما صنعنا! قتلنا القوم ولم يبق إلا اليسير ، ارجعوا حتى نستأصلهم ، فألقى الله فى قلبه الرعب ، كما قال :