وضعف رأيكم وملتم إلى الغنيمة ، (وَتَنازَعْتُمْ) فى الثبات مع الرماة حين انهزم المشركون ، فقلتم : الغنيمة الغنيمة ، فما وقوفكم هنا! وقال آخرون : لا تخالفوا أمر الرسول ، ثم تركتم المركز ، (وَعَصَيْتُمْ) الرسول (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) من النصر والغنيمة ، امتحناكم حينئذ بالهزيمة.
فمنكم (مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) ليصرفها فى الآخرة ، وهم الذين خالفوا المركز وذهبوا للغنيمة ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) صرفا ، وهم الثابتون مع عبد الله بن جبير ، محافظة على أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) حين خالفتم أمر الرسول ، (لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي : ليختبركم ، فيتبين الصابر من الجازع ، والمخلص من المنافق ، (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة ، لاستحقاقكم ذلك ، أو تجاوز عن ذنبكم وتفضل بالتوبة والمغفرة ، (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ) عظيم (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ؛ يتفضل عليهم بالمغفرة فى الأحوال كلها ، سواء أديل عليهم أو لهم ، فإن الابتلاء أيضا رحمة وتطهير. والله تعالى أعلم.
الإشارة : يقول للفقراء الذين استشرفوا على بلاد الخصوصية ، ثم فشلوا ورجعوا إلى بلاد العمومية : ولقد صدقكم الله وعده فى إدراك الخصوصية لو صبرتم ، فإنكم حين كنتم تجاهدون نفوسكم وتحسونها بسيوف المخالفة ، لمعت لكم أنوار المشاهدة ، حتى إذا فشلتم وتفرقت قلوبكم ، وعصيتم شيوخكم قلّت أمدادكم ، وأظلمت قلوبكم ، من بعد ما رأيتم ما تحبون من مبادئ المشاهدة ، فملتم إلى الدنيا الفانية ، فمنكم يا معشر المنتسبين من يريد الدنيا ، فصحب العارفين على حرف ، وهو الذي رجع وفشل ، ومنكم من يريد الآخرة وقطع يأسه من الرجوع إلى الدنيا ، وهو الذي ثبت حتى ظفر ، ثم صرفكم عن صحبة العارفين ، يا من أراد الدنيا من المنتسبين ، ليبتليكم ، هل صحبتموهم لله أو لغيره ، ولقد عفا عنكم وجعلكم من عوام المسلمين ، ولم يسلب عنكم الإيمان عقوبة لترك صحبة العارفين. أو لقد عفا عنكم إن رجعتم إلى صحبتهم والأدب معهم ، فإن الله (ذو فضل على المؤمنين) حيث لم يعاجلهم بالعقوبة. وبالله التوفيق.
وقال الورتجبي : قوله : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) ، أي : منكم من وقع فى بحر غنى القدم ، واتصف به بنعت التمكين ورؤية النعم فى شكر المنعم ، كسليمان عليهالسلام. ومنكم من وقع فى بحر التنزيه وتقديس الأزلية ، فغلب عليه القدس والطهارة ، فخرج بنعت الفقر ؛ تجريدا لتوحيده وإفراد قدمه من الحدث ، كمحمد صلىاللهعليهوسلم حيث قال : «الفقر فخرى» (١).
__________________
(١) قال الحافظ ابن حجر : لا أصل له. انظر : الأسرار المرفوعة.