ثم ذكر الحق تعالى علة انهزام من انهزم ، فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥))
يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ) وانهزموا يوم أحد ؛ (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع المسلمين وجمع الكفار إنما كان السبب فى انهزامهم أن الشيطان (اسْتَزَلَّهُمُ) ، أي : طلب زللهم فأطاعوه ، أي : زين لهم الفرار فأطاعوه ، بسبب بعض (ما كَسَبُوا) من الإثم ، كمخالفة أمر النبي صلىاللهعليهوسلم ، والحرص على الغنيمة ، وذنوب اقترفوها قبل الجهاد ، فإن المعاصي تجر بعضها بعضا ، كالطاعة ، (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) فيما فعلوا من الفرار ؛ لتوبتهم واعتذارهم ؛ (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) للذنوب ، (حَلِيمٌ) لا يعاجل بعقوبة المذنب كى يتوب.
الإشارة : إن الذين تولوا منكم يا معشر الفقراء ، ورجعوا عن صحبة الشيوخ ، حين التقى فى قلبهم الخصمان : خصم يرغبهم فى الثبوت ، وخصم يدلهم على الرجوع ، ثم غلب خصم الرجوع فرجعوا ، إنما استزلهم الشيطان بسوء أدبهم ، فإن تابوا ورجعوا ، أقبلوا عليهم ، وقبل الله توبتهم ، وعفا عنهم ، فإنه سبحانه غفور حليم.
ثم حذّر من التشبه بالمنافقين فى ضعف اليقين ، وما ينشأ عنه من مقالة الجاهلين ، فقال :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦))
قلت : (غزّى) : جمع غاز ، كعاف وعفى ، وإنما وضع (إذا) موضع (إذ) ؛ لحكاية الحال.
يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) ونافقوا ، كعبد الله بن أبى ، وأصحابه ، (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) فى النسب ، أو فى المذهب ، أي : قالوا لأجلهم أو فى شأنهم ، (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) أي : سافروا للتجارة أو غيرها فماتوا ، (أَوْ كانُوا غُزًّى) أي : غازين فقتلوا فى الغزو : (لَوْ كانُوا عِنْدَنا) مقيمين (ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) ، وإنما نطقوا بذلك (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ) القول الناشئ عن الاعتقاد الفاسد (حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) بالاغتمام على ما فات ، والتحسر على ما لم يأت ، (وَاللهُ) هو (يُحْيِي وَيُمِيتُ) بلا سبب فى الإقامة والسفر ، فليس يمنع حذر من قدر ، (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) ، أيها المؤمنون (بَصِيرٌ) ، ففيه تهديد لهم على أن يماثلوا المنافقين فى هذا الاعتقاد الفاسد ، ومن قرأ بالياء فهو تهديد لهم. والله تعالى أعلم.