أبو جابر عبد الله بن عمرو بن حرام ، وقال لهم : ارجعوا (قاتلوا فى سبيل الله أو ادفعوا) ، أي : كثروا سواد المسلمين ، فقال ابن أبيّ ـ رأس المنافقين ـ : ما أرى أن يكون قتالا ، ولو علمنا أن يكون قتال (لاتبعناكم) ، وكنا معكم.
قال تعالى : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) ؛ لظهور الكفر عليهم من كلامهم ، فأمارات الكفر عليهم أكثر من أمارات الإيمان ، أو : هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، لأن رجوعهم ومقالتهم تقوية للكفار عليهم وتخذيل للمسلمين ، (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) ، فهم يظهرون خلاف ما يبطنون ، لا تواطئ قلوبهم ألسنتهم بالإيمان ، وإضافة القول إلى الأفواه تأكيد وتغليظ ، (وَاللهُ أَعْلَمُ) منكم (بِما يَكْتُمُونَ) من النفاق ؛ لأنه يعلمه مفصلا بعلم واجب ، وأنتم تعلمونه مجملا بأمارات.
وهؤلاء المنافقون هم (الذين قالوا) فى شأن إخوانهم الذين قتلوا يوم أحد : (لَوْ أَطاعُونا) وجلسوا فى ديارهم (ما قُتِلُوا) ، قالوا هذه المقالة وقد قعدوا عن الخروج ، (قُلْ) لهم يا محمد : (فَادْرَؤُا) أي : فادفعوا (عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنكم تقدرون أن تدفعوا القتل عمن كتب عليه ، فادفعوا عن أنفسكم الموت وأسبابه حين يبلغ أجلكم ، فإنه أحرى بكم ، فالقعود لا ينجى من الموت إذا وصل الأجل ، فإن أسباب الموت كثيرة ، فقد يكون القعود سببا للموت إن بلغ الأجل ، وقد يكون الخروج سببا للنجاة إن لم يبلغ. والله تعالى أعلم.
الإشارة : وما أصابكم يا معشر الفقراء عند توجهكم إلى الحق فارين من الخلق ، حين استشرفتم على الجمع وجمع الجمع فبإذن الله ؛ فإن الداخل على الله منكور ، والراجع إلى الناس مبرور ، وليظهر الصادق من الكاذب ، فإن محبة الله مقرونة بالبلاء ، والطريق الموصلة إليها محفوفة بالمكاره ، مشروطة بقتل النفوس وحط الرؤوس ، ودفع العلائق ، والفرار من العوائق.
فإذا قيل للعوام : قاتلوا أنفسكم فى سبيل الله لتدخلوا حضرة الله ، أو ادفعوا عن أنفسكم العلائق لتشرق عليكم أنوار الحقائق ، قالوا : قد انقطع هذا الطريق واندرست أرباب علم التحقيق ، ولو نعلم قتالا بقي يوصلنا إلى ربنا ، كما زعمتم ؛ لاتبعناكم ودخلنا فى طريقكم. هم للكفر يومئذ أقرب للإيمان ، حيث تحكموا على القدرة الأزلية ، وسدوا باب الرحمة الإلهية ، وإنما يقولون ذلك احتجاجا لنفوسهم ، وإبقاء على حظوظهم ، وليس ذلك من خالص قلوبهم ، يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم.
وإذا نزل بأهل النسبة نكبة أو بلية ، قالوا لإخوانهم ، الذين دخلوا فى طريق القوم ، وقد قعدوا هم مع العوام : لو أطاعونا ولم يدخلوا فى هذا الشأن ، ما قتلوا أو عذبوا ، فقل لهم أيها الفقير : القضاء والقدر يجرى على الجميع ، فادفعوا عن أنفسكم ما تكرهون ، إن كنتم صادقين أن المكاره لا تصيب إلا من توجه لقتال نفسه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.