ولمّا قتل الشهداء يوم أحد أكرم الله أرواحهم بما يكل عنه اللسان ، فقالوا : يا ليت قومنا يعلمون بما نحن فيه ، كى يرغبوا فى الجهاد ، فقال لهم الله تعالى : أنا أخبرهم عنكم ، فأنزل الله تعالى :
(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١))
قلت : (ألّاخوف عليهم) : بدل من (الذين لم يلحقوا) ، أو مفعول لأجله ، وكرر : (يستبشرون) ؛ ليذكر ما تعلق به من الفضل والنعمة ، أو : الأول بحال إخوانهم ، وهذا بحال أنفسهم.
يقول الحق جل جلاله : (وَلا تَحْسَبَنَ) أيها الرسول ، أو أيها السامع ، (الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ) هم (أَحْياءٌ) ؛ لأن الله تعالى جعل أرواحهم فى حواصل طير خضر ، يسرحون فى الجنة حيث شاءوا عند ربهم ، بالكرامة والزلفى ، يرزقون من ثمار الجنة ونعيمها ، فحالهم حال الأحياء فى التمتع بأرزاق الجنة ، بخلاف سائر الأموات من المؤمنين ؛ فإنهم لا يتمتعون بالأرزاق حتى يدخلوا الجنة. قاله ابن جزى.
قلت : شهداء الملكوت ـ وهم العارفون ـ أعظم قدرا من شهداء السيوف ، وراجع ما تقدم فى سورة البقرة (١).
(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من الكرامة والزلفى والنعيم الذي لا يفنى ، (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) أي : بإخوانهم الذي لم يقتلوا فيلحقوا بهم من بعدهم. وتلك البشارة هى : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، أو من أجل (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
والحاصل : أنهم يستبشرون بما تبين لهم من الكرامة فى الآخرة ، وبحال من تركوا من خلفهم من المؤمنين ، وهو أنهم إذا ماتوا أو قتلوا ، كانوا أحياء ، حياة لا يدركها خوف وقوع محذور ، ولا حزن فوات محبوب. فالآية تدل على أن الإنسان غير الهيكل المحسوس ، بل هو جوهر مدرك بذاته ، لا يفنى بخراب البدن ، ولا يتوقف على وجود البدن إدراكه وتألمه والتذاذه. ويؤيد ذلك قوله تعالى فى آل فرعون : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) ، وما روى ابن عباس من أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «أرواح الشهداء فى أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنّة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوى إلى قناديل معلّقة فى ظلّ العرش» ـ قال معناه البيضاوي.
__________________
(١) عند إشارة الآية : ١٥٤ وما بعدها.