ولمّا ذكر استبشارهم بإخوانهم ذكر استبشارهم بما يخصهم فقال : (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) ؛ وهو ثواب أعمالهم الجسماني ، (وَفَضْلٍ) وهو نعيم أرواحهم الروحاني ، وهو النظر إلى وجهه الكريم ، ويستبشرون أيضا بكونه تعالى (لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) ، ماتوا فى الجهاد أو على فرشهم ، حيث حسنت سريرتهم وكرمت علانيتهم ، قال صلىاللهعليهوسلم : «إن لله عبادا يصرفهم عن القتل والزلازل والأسقام ، يطيل أعمارهم فى حسن العمل ، ويحسن أرزاقهم ، ويحييهم فى عافية ، ويميتهم فى عافية على الفرش ، ويعطيهم منازل الشهداء» (١). قلت : ولعلهم العارفون بالله ، جعلنا الله من خواصهم ، وسلك بنا مسالكهم. آمين.
الإشارة : لا تحسبن الذين بذلوا مهجهم ، وقتلوا أنفسهم بخرق عوائدها ، وعكس مراداتها ، فى طلب معرفة الله ، حتى ماتت نفوسهم ، وحييت أرواحهم بشهود محبوبهم ، حياة لا موت بعدها ، فلا تظن أيها السامع أنهم أموات ، ولو ماتوا حسا ، بل هم أحياء على الدوام ، وفى ذلك يقول الشاعر :
موت التّقىّ حياة لا فناء لها |
|
قد مات قوم وهم فى النّاس أحياء |
فهم عند ربهم يشاهدونه مدة بقائهم ، يرزقون من ثمار المعارف وفواكه العلوم ، فرحين بما أتحفهم الله به من القرب والسر المكتوم ، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم فى المرتبة ممن تعلق بهم ، وأنهم سيصلون إلى ما وصلوا إليه من معرفة الحي القيوم ، فلا يلحقهم حينئذ خوف ولا حزن ولا هم ولا غم ، لما سكن فى قلبهم من خمرة محبة الحبيب ، والقرب من القريب المجيب ، وفى ذلك يقول ابن الفارض :
وإن خطرت يوما على خاطر امرئ |
|
أقامت به الأفراح ، وارتحل الهمّ |
يستبشرون بنعمة أدب العبودية ، وفضل شهود أسرار عظمة الربوبية ، وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين المحبين لطريق المخصوصين ، فإن طريق محبة طريق القوم عناية ، والتصديق بها ولاية ، وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولما رجع أبو سفيان من غزوة أحد ، هو وأصحابه ، حتى بلغوا الروحاء ، ندم وهم بالرجوع ، فبلغ ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم فندب أصحابه للخروج فى طلبه ، وقال : «لا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس» ، فخرج صلىاللهعليهوسلم فى سبعين رجلا حتى بلغوا حمراء الأسد ـ وهى على ثمانية أميال من المدينة ـ وكان بأصحابه القرح ، فتحاملوا على أنفسهم كى لا يفوتهم الأجر ، وألقى الله الرعب فى قلوب المشركين ، فذهبوا ، فأنزل الله ـ تعالى ـ فى شأن من خرج مع الرسول صلىاللهعليهوسلم :
(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢))
__________________
(١) عزاه الهيثمي فى مجمع الزوائد ١٠ / ٢٠٣ للطبرانى عن ابن مسعود مرفوعا. وفيه : جعفر بن محمود الواسطي الوراق ، قال الهيثمي : لم أعرفه وبقية رجاله ثقات.