الإشارة : إنكار العوام على الخصوص لا يضرهم ، ولا يغض من مرتبتهم ، بل يزيدهم رفعة وعلوا وعزا وقربا ، قال تعالى : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ، وسمعت شيخنا البوزيدى رضي الله عنه يقول : «كلام الناس فى الولي كناموسة نفخت على جبل». أي : لا يلحقهم من ذلك إلا ما يلحق الجبل من نفخ الناموسة ، يريد الله ألا يجعل لهم من نصيب القرب شيئا ، ولهم عذاب البعد والنصب ، فى غم الحجاب وسوء الحساب ، لا سيما من تمكن من معرفتهم ، ثم استبدل صحبتهم بصحبة العوام ، فلا تسأل عن حرمانه التام ، والعياذ بالله.
ثم لا يدل إمهال الكافرين وتمتعهم بطول الحياة على إرادة الخير لهم ، بل إنما ذلك استدراج وزيادة فى الإثم ، كما أشار إلى ذلك بقوله :
(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨))
قلت : من قرأ بالتحتية ، فالذين كفروا : فاعل ، و (أن) وما بعدها : سد مسد المفعولين ، ومن قرأ بالفوقية فالذين : مفعول أول ، و (إنما) : سد مسد الثاني ، و (ما) : مصدرية ، والإملال : الإمهال والتأخير. ومنه : (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) أي : حينا طويلا.
يقول الحق جل جلاله : ولا يظنن الذين كفروا أن إمهالى لهم وإمدادهم بطول الحياة ، هو خير لهم ، إنما نمهلهم استدراجا (لِيَزْدادُوا) إثما وعقوبة ، (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) يهينهم ، ويخزيهم يوم يعز المؤمنين.
الإشارة : إمهال العبد وإطالة عمره ، إن كانت أيامه مصروفة فى الطاعة واليقظة ، وزيادة المعرفة ، فإطالتها خير ، والبركة فى العمر إنما هى بالتوفيق وزيادة المعرفة ، وفى الحكم : «من بورك له فى عمره أدرك فى يسير من الزمان مالا تدركه العبارة ولا تلحقه الإشارة». وإن كانت أيام العمر مصروفة فى الغفلة والبطالة وزيادة المعصية ، فالموت خير منها. وقد سئل ـ عليه الصلاة والسلام ـ أىّ الناس خير؟ قال : «من طال عمره وحسن عمله ، قيل فأىّ النّاس شر؟ قال : من طال عمره وساء عمله». والله تعالى أعلم.