يقول الحق جل جلاله : (لا يَغُرَّنَّكَ) أيها السامع أو أيها الرسول ، والمراد : تثبيته على ما كان عليه ، كقوله : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) ، أي : دم على ما أنت عليه من عدم اغترارك بظاهر ما ترى عليه الكفار من البسط فى الدنيا ، والتقلب فيها بالتجارات والزراعات ، وما هم عليه من الخصب ولين عيش ، فإن ذلك (مَتاعٌ قَلِيلٌ) بلغة فانية ، ومتعة زائلة ، وظلال آفلة ، وسحابة حائلة. قال صلىاللهعليهوسلم : «ما الدّنيا فى الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه فى اليمّ ، فلينظر بم يرجع». فلا بد أن يرحلوا عنها قهرا ، (ثُمَّ مَأْواهُمْ) أي : مصيرهم (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) ما مهدوا لأنفسهم.
والمعتبر عند الأكياس هو ما أعد الله للمتقين من الناس ، قال تعالى : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) وخافوا عقابه ، (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) ، هيأ ذلك لهم وأعده (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) هذا النزول الذي يقدم للضيف ، وأما ما أعد لهم بعد النزول فلا يعبر عنه لسان ، ولذلك قال : (وَما عِنْدَ اللهِ) من النعيم الذي لا يفنى ، جسمانى وروحانى ، (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) مما ينقلب إليه الفجار. قيل : حقيقة البر : هو الذي لا يؤذى الذر.
الإشارة : لا يغرنك أيها الفقير ما ترى عليه أهل الدنيا من اتخاذ المنازل المشيدة ، والفرش الممهدة ، فإن الدنيا متاعها قليل ، وعزيزها قليل ، وغنيها فقير ، وكبيرها حقير ، واعتبر بحال نبيك ـ عليه الصلاة والسلام ـ.
قال أنس رضي الله عنه : دخلت على النبي صلىاللهعليهوسلم وهو على سرير مرفل بالشريط ـ أي : مضفور به ـ وتحت رأسه وسادة من أدم ، حشوها ليف ، فدخل عليه عمر ، وانحرف النبي صلىاللهعليهوسلم انحرافة ، فرأى عمر أثر الشريط فى جنبه ، فبكى ، فقال له النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما يبكيك يا عمر»؟ فقال : مالى لا أبكى وكسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من الدنيا ، وأنت على الحال الذي أرى ، فقال له النبي صلىاللهعليهوسلم : «يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدّنيا ولنا الآخرة». رواه البخاري.
وانظر ما أعد الله للمتقين الأبرار ، الذين صبروا قدر ساعة من نهار ، فأفضوا الى جوار الكريم الغفار فى دار القرار ، (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) ، ولا سيما العارفين الكبار. قال الورتجبي : بيّن الحق ـ تعالى ـ رفعة منزل المتقين فى الجنان ، ثم أبهم لطائف العناية بقوله : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) أي : ما عنده من نعيم المشاهدة ، ولطائف القربة ، وحلاوة الوصلة ، خير مما هم فيه من نعيم الجنة ، وأيضا : صرح فى هذه الآية ببيان مراتب الولاية ، لأنه ذكر المتقين ، والتقوى : تقديس الباطن عن لوث الطبيعة ، وتنزيه الأخلاق عن دنس