ولمّا كان الصبر من الدّين كالرأس من الجسد ، فلو حصل للناس دائما لم يتوجه العتاب لأحد ، ختم به السورة ، التي عاتب فيها جل العباد ، فقال :
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))
قلت : المرابطة : أن يربط هؤلاء خيولهم ، وهؤلاء خيولهم ، إرصادا لمن حاربهم ، ثم أطلق على كل مقيم فى ثغر يدفع عمن وراءه ، وإن لم يكن له مركب ، إذا كان بنية الدفع عن المسلمين كان بأهله أو وحده. المدار على خلوص النية ، خلاف ما قاله ابن عطية (١) ، وسيأتى صوابه (٢) فى تفسير المعنى ، إن شاء الله.
يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) على مشاق الطاعات ، وما يصيبكم من الشدائد والأزمات ، وعلى مجانبة المعاصي والمخالفات ، وعلى شكر ما أوليتكم من مواهب العطيات (وَصابِرُوا) أي : غالبوا الأعداء فى مواطن الصبر ، والثبوت فى مداحض الحرب ، (وَرابِطُوا) أبدانكم وخيولكم فى الثغور لتحفظوا المسلمين من العدو الكفور ، كى تفوزوا بعظائم الأجور ؛ قال صلىاللهعليهوسلم : «من رابط يوما وليلة فى سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه ، لا يفطر ولا ينفتل (٣) عن صلاته إلا لحاجة ، ومن توفى فى سبيل الله ـ أي : مرابطا فى سبيل الله ـ أجرى الله عليه أجره حتى يقضى بين أهل الجنة وأهل النّار». ومما يلحق بالرباط : «انتظار الصّلاة بعد الصّلاة» ، كما فى الحديث.
(وَاتَّقُوا اللهَ) فيما يأمركم به وينهاكم عنه ، (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فلاحا لا خسران بعده أبدا.
الإشارة : (يا أيها الذين آمنوا) إيمان أهل الخصوص ، (اصبروا) على حفظ مراسم الشريعة ، (وصابروا) على تحصيل أنوار الطريقة ، (ورابطوا) قلوبكم على شهود أسرار الحقيقة ، أو : اصبروا على أداء العبادة ، وصابروا على تحقيق العبودية ، ورابطوا فى تحصيل العبودة ـ أي : الحرية ـ أو : اصبروا على تحقيق مقام الإسلام ، وصابروا على دوام الإيمان ، ورابطوا على العكوف فى مقام الإحسان ، أو : اصبروا على تخليص الطاعات ، وصابروا على رفض الحظوظ والشهوات ، ورابطوا أسراركم على أنوار المشاهدات ، (واتقوا الله) فلا تشهدوا معه سواه ، (لعلكم تفلحون) ، بتحقيق معرفة الله. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
__________________
(١) قال ابن عطية ـ بعد كلام ـ : فأما سكان الثغور دائما بأهليهم الذين يعتمرون ويكتسبون هناك ، فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين.
(٢) فى الأصول : ثوابه.
(٣) انفتل : انصرف.