يقول الحق جل جلاله ، تتميما لتعليم عباده : فإذا أثنيتم على ومجدتمونى وعظمتمونى فأقروا لى بالربوبية ، وأظهروا من أنفسكم العبودية ، واطلبوا منى العون فى كل وقت وقولوا : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، وكأنه ـ جل جلاله ـ لمّا ذكر أنه مستحق للمحامد كلها قديمها وحديثها ؛ لأنه رب العوالم وقيومها ، أصل الأصول وفروعها ، أنعم عليها أولا بالإيجاد ، وثانيا بتوالي الإمداد ، فهو مالكها على الإطلاق ، ذكر أنه لا يستحق أن يعبد سواه ؛ إذ لا منعم على الحقيقة إلا الله ، فهو أحقّ أن يعبد ، وأولى أن يفرد بالوجهة والقصد ، لأنه مستبد وغير مستمدّ ، والمادة من عين الجود ، فإذا انقطعت المادة انعدم الوجود.
قال البيضاوي : ثم إنه لما ذكر الحقيق بالحمد ، ووصف بصفات عظام تميّز بها عن سائر الذوات ، تعلّق العلم بمعلوم معين ، خوطب بذلك ، أي : يا من هذا شأنه نخصّك بالعبادة والاستعانة ، ليكون أدل على الاختصاص ، وللترقى من الغيبة إلى الشهود ، وكأن المعلوم صار عيانا ، والمعقول مشاهدا ، والغيبة حضورا. بنى أول الكلام على ما هو مبادئ حال العارف ؛ من الذكر والفكر والتأمل فى أسمائه ، والنظر فى آلائه ، والاستدلال بصنائعه على عظيم شأنه وباهر سلطانه ، ثم قفى بما هو منتهى أمره ، وهو أن يخوض لجة الوصول ، ويصير من أهل المشاهدة ، فيراه عيانا ويناجيه شفاها. اللهم اجعلنا من الواصلين إلى العين دون التابعين للأثر. ومن عادة العرب التفنن فى الكلام والعدول عن أسلوب إلى آخر ، تطرية وتنشيطا للسامع ، فتعدل من الخطاب إلى الغيبة ، ومن الغيبة إلى التكلم ، كقوله : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ ...) ولم يقل (بكم) وقوله (أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ ...) أي : ولم يقل : فساقه .. انظر تمام كلامه.
والالتفات هنا فى قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ولم يقل : إياه نعبد ؛ لأن الظاهر من قبل الغيبة ، وحسنه أن الموصوف تعيّن وصار حاضرا.
قال الأقليشى : فهذه الآية هى التي قال فيها النبي صلىاللهعليهوسلم : «فإذا قال العبد : إياك نعبد وإياك نستعين ، يقول الله تعالى : هذه بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل». معناه : أي عبد توجّه إلى بالعبادة وسألنى العون عليها فعبادته متقبلة ، والعون منى له عليها حاصل حتى يوقعها على وجهها ، فالعبادة وصف العبد ، والعون من الله تعالى للعبد ، فلهذا قال : «فهذه بينى وبين عبدى».
قال ابن جزي : أي نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا ، وفى هذا دليل على بطلان قول القدرية والجبرية ، وأنّ الحق بين ذلك.