ولا يكون فطره إلا على حلاوة مشاهدته لقوله : «وأفطروا لرؤيته» ، فالسائحون طيارون بقلوبهم فى أقطار الغيب ، وذلك يقتضى الخضوع بنعت الفناء عند مشاهدة العظمة ، فيركع شوقا لجماله ، وخضوعا لجلاله ، وعند ركوعه وخضوعه تحيط به أنوار الصفات ، فيسجد لكل الجهات ؛ (فأينما تولوا فثم وجه الله) (١). وهذا السجود يقتضى الغربة ، والغربة تقتضى المشاهدة ، والمشاهدة تصير شاهدها متصفا بصفاتها ، فمن وقع فى نور أسماء الله وصفاته صار متصفا بوصف الربوبية ، متمكنا فى العبودية ، فيحكم بحكم الله ، ويعدل بعدل الله ، فيصفهم الله بهذه النعوت ، قال : (الآمرون بالمعروف) الداعون الخلق إلى الحق ، والناهون لهم عن متابعة الشهوات ، والحافظون لحدود الله ، القائمون فى مقام العبودية بعد كشف صفات الربوبية لهم ، فلا يتجاوزون عن حد العبودية ، وإن ذاقوا طعم حلاوة الربوبية ؛ لأنهم فى محل التمكين على أسوة مراتب النبي صلىاللهعليهوسلم ، مع كماله ، قال : «أنا العبد لا إله إلا الله». انتهى.
ثم نهى نبيه عن الاستغفار للمشركين ، وينخرط فيهم من تخلف عن تبوك من المنافقين ، فقال:
(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤))
يقول الحق جل جلاله : (ما كانَ) ينبغى (لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) الذين ماتوا على الشرك ، (وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى) أي : من قرابتهم ، (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) ؛ لموتهم على الشرك. روى أنه عليه الصلاة والسلام قال لأبى طالب ، لما حضرته الوفاة : «قل : لا إله إلا الله ، كلمة أحاجّ لك بها عند الله». فأبى ، فقال : «والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» ، فكان يستغفر له حتى نزلت الآية (٢). وقيل : إن النبي صلىاللهعليهوسلم استأذن ربه أن يستغفر لأمه ، فنزلت ، وقيل : إن المسلمين أرادوا أن يستغفروا لآبائهم ، فنزلت ، وفيه دليل على جواز الاستغفار لأحيائهم ؛ إذ لم يتحقق أنهم أصحاب الجحيم ، فإنه طلب توفيقهم للإيمان.
ثم رفع إيهام النقض باستغفار إبراهيم عليهالسلام لأبيه الكافر ، فقال : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) ، وقيل : إنه صلىاللهعليهوسلم قال فى شأن عمه : «لأستغفرن لك ، كما استغفر إبراهيم لأبيه» ، فنزلت :
__________________
(١) من الآية ١١٥ من سورة البقرة.
(٢) أخرجه البخاري فى (مناقب الأنصار ، باب : قصة أبى طالب) ومسلم فى (الإيمان ، باب : الدليل على صحة إسلام من حضره الموت).