فيها مولاها. وقال الشيخ أبو العباس المرسى رضى الله عنه : الحق الذي خلق الله به كل شىء كلمة «كن». قال سبحانه : (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ) (١). ه. وهو بعيد هنا.
(يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٢) فإنهم المنتفعون بالنظر فيها والاعتبار بها.
ثم بيّن وجه الاعتبار فقال : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : تعاقبهما بالذهاب والمجيء ، أو بالزيادة والنقصان ، (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من أنواع الكائنات وضروب المخلوقات ، (لَآياتٍ) دالة على وجود الصانع ووحدته ، وكمال علمه وقدرته ، (لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) الله ، ويخشون العواقب ، فإن ذلك يحملهم على التفكر والتدبر ، بخلاف المنهمكين فى الغفلة والمعاصي ، الذين أشار إليهم بقوله :
(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) أي : لا يتوقعونه ، أو : لا يخافون بأسه لإنكارهم البعث ، وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها ، (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا) : قنعوا بها بدلا من الآخرة لغفلتهم عنها ، (وَاطْمَأَنُّوا بِها) أي : سكنوا إليها مقصرين هممهم على لذائذها وزخارفها ، وسكنوا فيها سكون من يظن أنه لا ينزعج عنها. (وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا) المتقدمة الدالة على كمال قدرتنا ، (غافِلُونَ) : لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون ؛ لانهماكهم فى الغفلة والذنوب.
قال البيضاوي : والعطف إما لتغاير الوصفين ، والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا ، والانهماك فى الشهوات ، بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلا ، وإما لتغاير الفريقين ، والمراد بالأولين : من أنكر البعث ولم يرد إلّا الحياة الدنيا ، وبالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل فى الآجل والإعداد له. ه.
(أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي : بما واظبوا عليه وتمرنوا به من المعاصي. قال ابن عطية : وفى هذه اللفظة رد على الجبرية ، ونص على تعلق العقاب بالتكسب. ه.
الإشارة : هو الذي جعل شمس العيان مشرقة فى قلوب أهل العرفان ، لا غروب لها مدى الأزمان ، وجعل قمر توحيد الدليل والبرهان نورا يهتدى به إلى طريق الوصول إلى العيان ، وقدّر السير به منازل ـ وهى مقامات اليقين ومنازل السائرين ـ ينزلون فيها مقاما إلى صريح المعرفة ، وهى التوبة والخوف ، والرجاء والورع ، والزهد والصبر ، والشكر والرضى والتسليم والمحبة ، والمراقبة والمشاهدة. ما خلق الله ذلك إلا بالحق ، ليتوصل به إلى الحق. إن فى اختلاف ليل القبض ونهار البسط على قلب المريد لآيات دالة له على السير ، لقوم يتقون السّوى ، أو شواغل الحس.
__________________
(١) من الآية ٧٣ من سورة الأنعام.
(٢) قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص ويعقوب بياء الغيب (يفصل). والباقون بنون العظمة (نفصل) انظر الإتحاف (٢ / ١٠٤).