إن الذين لا يرجون الوصول إلينا لقصر همتهم ، ورضوا بالحياة الدنيا وشهواتها ، واطمأنوا بها ولم يرحلوا عنها ، إذ لا يتحقق سير السائرين إلا بمجاهدة تركها والرحيل بالقلب عنها ، والذين هم عن آياتنا غافلون ؛ لانهماكهم فى الهوى والحظوظ ، أولئك مأواهم نار القطيعة وغم الحجاب ، بما كانوا يكسبون من الاشتغال بالحظوظ والشهوات. وبالله التوفيق.
ثم ذكر أضدادهم ، فقال :
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠))
قلت : (تجرى) : جملة استئنافية ، أو خبر ثان لإنّ ، أو حال من الضمير المنصوب فى (يَهْدِيهِمْ). و (دعواهم) : مبتدأ ، و (سبحانك) : مقول للخبر ـ أي : قولهم سبحانك. والتحية مأخوذة من تمنى الحياة والدعاء بها ، يقال : حياه تحية ، ويقال للوجه : محيا لوقوع التحية عند رؤيته ، و (آخر) : مبتدأ ، و (أن الحمد لله) : خبر ، وأن مخففة.
يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ) أي : يسددهم (بِإِيمانِهِمْ) ؛ بسبب إيمانهم إلى الاستقامة والنظر ، أو إلى سلوك سبيل يؤدى إلى الجنة ، أو إلى إدراك الحقائق العرفانية ، كما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم» ، أو لما يشتهونه فى الجنة ، (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) الأربعة ، (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ، (دَعْواهُمْ فِيها) أي : دعاؤهم فيها : (سُبْحانَكَ اللهُمَ) أي : اللهم إنا نسبحك تسبيحا. وروى : أن هذه الكلمة هى ثمر أهل الجنة ، فإذا اشتهى أحدهم شيئا قال : سبحانك اللهم ، فينزل بين يديه. رواه ابن جريج وسفيان بن عيينة.
(وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أي : ما يحيى به بعضهم بعضا ، أو تحية الملائكة إياهم ، أو تسليم الله تعالى عليهم فيها سلام ، (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : وخاتمة دعائهم فى كل موطن حمده تعالى وشكره. والمعنى : أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمته وكبرياءه مجّدوه ونعتوه بنعوت الجلال ، وقدّسوه عند مشاهدته عن كل تماثيل وخيال ، فحيّاهم بسلام من عنده ، وعند ما منحهم سلامه وأحلّ عليهم رضوانه ، وأدام لهم كرامته وجواره ، وأراهم وجهه ، حمدوه بما حمد به نفسه ، فكانت بدايتهم بالتنزيه والتعظيم ، وخاتمة دعائهم فى كل موطن حمده وشكره على ما مكنهم فيه ، من رؤية وجهه الكريم ، ودوام النعيم المقيم ، وسمى دعاء لأنه يستدعى المزيد من فضله. قاله المحشى.