الإشارة : إن الذين استكملوا الإيمان ، وأخلصوا الأعمال ، يهديهم ربهم إلى من يوصلهم إلى جنة حضرته ، ببركة إيمانهم ، تجرى من تحت أفكارهم أنهار العلوم ، فى جنات مشاهدة طلعته ، والتنعم بأنوار معرفته ، فإذا عاينوا ذلك أدهشتهم الأنوار ، فبادروا إلى التنزيه والتقديس ، فيجيبهم الحق تعالى بإقباله عليهم بأنوار وجهه ، وأسرار ذاته ، فيحمدونه ويشكرونه على ما أولاهم من سوابغ نعمته ، والسكون فى جوار حضرته ، منحنا الله من ذلك الحظ الأوفر ، آمين.
ولمّا تعجب الكفار من بعث الرسول منهم ، وكفروا به ، استعجلوا ما خوفهم به من العذاب ، فأنزل الله جوابا لهم :
(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١))
قلت : (استعجالهم) : نصب على المصدر ، أي : استعجالا مثل استعجالهم بالخير. قال البيضاوي : وضع موضع تعجيله لهم بالخير إشعارا بسرعة إجابته لهم فى الخير ، حتى كأن استعجالهم به تعجيل لهم. ه. (فنذر) : عطف على فعل محذوف دلت عليه الشرطية ، كأنه قيل : ولكن لا نعجل ولا نقضى بل نمهلهم فنذر .. إلخ.
يقول الحق جل جلاله : (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) حيث يطلبونه ، كقولهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١) ، (ائْتِنا بِما تَعِدُنا) (٢) (اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ) ؛ كما يعجل الله لهم الخير حين يسألونه (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي : لأميتوا وأهلكوا من ساعتهم ، وقرأ ابن عباس ويعقوب : «لقضى» بالبناء للفاعل ، أي : لقضى الله إليهم أجلهم ، ولكن من حلمه تعالى وكرمه يمهلهم إلى تمام أجلهم ، (فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) استدراجا وإمهالا (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) : يتحيرون. والعمه : الخبط فى الضلال ، وهذا التفسير أليق بمناسبة الكلام. وقيل : نزلت فى دعاء الإنسان على نفسه وماله وولده بالشر ، أي : لو عجل الله للناس الشر كما يحبون تعجيل الخير لهلكوا سريعا ، فهو كقوله (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) (٣) ويكون قوله : (فَنَذَرُ ....) إلخ استئنافا. والله تعالى أعلم.
الإشارة : من حلمه تعالى وسعة جوده أنه لا يعامل عبده بما يستحقه من العقاب ، ولا يعاجله بما يطلبه إن لم يكن فيه سداد وصواب ، حكى أن رجلا قال لبعض الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ : قل لربى : كم أعصيه وأخالفه ولم يعاقبنى ، فأوحى الله إلى ذلك النبي : ليعلم أنى أنا وأنت أنت. ه. بل من عظيم كرمه تعالى أنه قد يعامل
__________________
(١) الآية ٣٢ من سورة الأنفال.
(٢) من الآية ٧٧ من سورة الإسراء.
(٣) من الآية ١١ من سورة الإسراء.