والمعنى أنه الحق لا شك فيه ، لو لم أرسل به أنا لأرسل به غيرى. وحاصل المعنى : أن الأمر بمشيئة الله لا بمشيئتى ، حتى أجعله على نحو ما تشتهون. ثم قرر ذلك بقوله : (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً) منذ أربعين سنة (مِنْ قَبْلِهِ) أي : من قبل نزول هذا القرآن ، لا أتلوه ولا أعلم منه شيئا ، وفيه إشارة إلى أن القرآن معجز خارق للعادة ، فإن من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يدرس فيها علما ، ولا يشاهد عالما ، ولم ينشد قريضا ـ أي شعرا ـ ولا خطبة ، ثم قرأ عليهم كتابا أعجزت فصاحته كل منطيق ، وفاق كل منظوم ومنثور ، واحتوى على قواعد علمى الأصول والفروع ، وأعرب عن أقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين على ما هى عليه ، علم أنه معلم به من عند الله. قاله البيضاوي.
فكل من له عقل سليم أدرك حقّيته ، ولذلك قرعهم بقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي : أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر ، فتعلموا أنه ليس من طوق البشر ، بل هو من عند الحكيم العليم الواحد القهار.
الإشارة : إذا ظهر أهل التربية الداعون إلى الله بطريق صعبة على النفوس ، يسيرون الناس عليها ، كخرق العوائد وتخريب الظواهر والتجريد ، قال من لا يرجو الوصول إلى الله ـ لغلبة الهوى عليه : ائتونا بطريق غير هذا لنتبعكم عليه ، يكون سهلا على النفوس ، موافقا لعوائدنا ، أو بدلوا هذا بطريق أسهل ، وأما هذا الذي أتيتم به ، فلا نقدر عليه ، وربما رموه بالبدعة ، فيقولون لهم : ما يكون لنا أن نبدله من تلقاء أنفسنا ، إن نتبع إلا ما سلك عليه أشياخنا وأشياخهم ، فما ربّونا به نربّى به من تبعنا ، فإن خالفنا طريقهم خفنا من عقاب الله ، حيث غششنا من اتبعنا ، وقد مكثنا معكم قبل صحبة أشياخنا سنين ، فلم تروا علينا شيئا من ذلك حتى صحبناهم ، فدل ذلك على أنه موروث عن أشياخهم وأشياخ أشياخهم ، أفلا تعقلون؟.
ثم سجل بالظلم على من كذب أو كذّب ، فقال :
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨))
يقول الحق جل جلاله : (فَمَنْ أَظْلَمُ) لا أحد أظلم (مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) بأن تقوّل على الله ما لم يقل ، وهذا بيان لبراءته مما اتهموه به من اختراعه القرآن ، وإشارة إلى كذبهم على الله فى نسبة الشركاء له