الإشارة : للذين أحسنوا بالانقطاع إلى الله والزهد فيما سواه ، الحسنى ، وهى المعرفة ، وزيادة ، وهى الترقي فى المقامات ، والعروج فى سماء المشاهدات ، والازدياد من الأسرار والمكاشفات ، وترداف المناجاة والمكالمات ، ولا يغشى وجوههم قتر ولا ذلة ، بل وجوههم بنور البقاء ضاحكة مستبشرة ، وهم خالدون فى نعيم الفكرة والنظرة.
ثم ذكر أضدادهم ، فقال :
(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧))
قلت : (والذين) : مبتدأ على حذف مضاف ، أي : جزاء الذين كسبوا ، و (جزاء) : خبر. أو على تقدير «لهم» ، أو معطوف على (للذين أحسنوا) على مذهب من يجوز : فى الدار زيد والحجرة عمرو. أو (جزاء) : مبتدأ ، و (بمثلها) : خبر ، والجملة حينئذ كبرى. ومن قرأ (قطعا) بفتح الطاء فجمع قطيع ، وهو مفعول ثان ، و (مظلما) : حال من الليل ، ومن قرأ (قطعا) بالسكون فمصدر ، و (مظلما) نعت له ، أو حال منه أو من الليل.
يقول الحق جل جلاله : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) كالكفر والشرك ، وما يتبعهما من المعاصي ، جزاؤهم (سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها) لا يزاد عليها ، فلا تضاعف سيئاتهم ، عدلا منه سبحانه ، (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي : هوان عند حشرهم للنار ، (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) يعصمهم من عذاب الله وغضبه ، (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) أي : يحشرون مسودة وجوههم ، كأنما أكسيت وجوههم قطعا كثيرة من الليل المظلم ، أو قطعا مظلما من الليل ، (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).
قال البيضاوي : هذا مما يحتج به الوعيدية ـ يعنى المعتزلة ـ فى تخليد العصاة. والجواب : أن الآية فى الكفار ؛ لاشتمال السيئات على الكفر والشرك ، ولأن الذين أحسنوا يتناول الكثير من أهل القبلة ، فلا يتناوله قسيمه. ه.
الإشارة : جزاء المعاصي البعد والهوان ، وتسويد وجوه القلوب والأبدان ، كما أن جزاء الطاعة التقريب والإبرار ، وتنوير وجوه القلوب والأسرار والإحسان ، وفى ذلك يقول ابن النحوي فى منفرجته:
ومعاصي الله سماجتها |
|
تزدان لذي الخلق السّمج (١) |
ولطاعته وصباحتها |
|
أنوار صباح منبلج |
__________________
(١) سماجتها : من سمج ـ بالضم ـ أي : قبح ـ وتزدان ، أي : تتزين وتحسن ، والسمج : القبيح.